«صراخٌ وهمس»

منذ 6 أشهر 88

هو عنوان عمل سينمائي للسويدي إنغمر برغمن، نشير من خلاله إلى الاضطراب الفكري الكبير الذي يلفّ الشرق الأوسط في هذه المرحلة المصيرية من تاريخه.

«صراخٌ وهمس»... إذ تسود عالمَنا الازدواجيةُ بين مستويين، مستوى الأفكار والمشاعر المعبَّر عنها علناً بصوت عالٍ فوق السطوح (جهة الصراخ)، ومستوى الأفكار والمشاعر المعبَّر عنها بصوت خافت في الدخائل (جهة الهمس). وعلى الرغم من طغيان الصراخ على الهمس، فإن الهمس هو غالباً الأكثر تعبيراً عن الواقع وما هو ذاهبٌ إليه في هذا الزمن التحولي، وقبله بكثير أيضاً.

عشية حروب 1975 في لبنان، جهة «الصراخ» إذا جاز التعبير، كانت المقولة السائدة في الأوساط الماركسية واليسارية عموماً، إن الصراع الطائفي انتهى في المجتمع اللبناني، وحلّ محله الصراع الطبقي. وحين بدت الأمور غير ذلك، تم استنباط مفهوم «الطائفة الطبقة» العجيب. وحتى الإعلام الرسمي اللبناني والحيّز الغالب من الصحافة المتعددة الآراء والمشارب، كانا ينظران إلى ما يجري، عبر رسوخ مفهوم «الوحدة الوطنية»، على أساس أنه ولّى من زمان عهد النزاعات الطائفية. وحتى كتاب مثل «تاريخ لبنان الحديث» لكمال الصليبي، كان موضع شبهة في نظر الاعتراض اللبناني، وغالباً ما وُصِم بـ«الرجعية»، لا لشيء إلا لأنه يحلل بموضوعية بروز الكيان اللبناني في الأزمنة الحديثة ودور الطوائف في تكوينه. وربما لحسن حظ أدمون رباط أن كتابه القيّم «التكوّن التاريخي للبنان الدستوري والسياسي (محاولة لفهم تركيبه)»، لم يكن متوافراً بالعربية، ما حدّ من انتشاره وجنّبه العديد من الشبهات والنعوت... وبعيداً عن ذلك كله، جهة «الهمس»، كانت الصراعات الطائفية وصلت إلى أوجها على أرض الواقع اللبناني، تعبئةً وتسليحاً. ولم تعد تنقص إلا الشرارة، التي انطلقت، وبدأ معها مسار الحروب والفتن والاحتلالات والاغتيالات والانهيارات، التي لم ندرك نهايتها بعد نصف قرن، حتى اليوم.

ازدواجية «الصراخ والهمس» رافقت تحولات المنطقة في كل مكان. وعلى سبيل المثال، منذ أن تسلّم جناحا «البعث» زمام الحكم في سوريا والعراق، كانت المقولة السائدة الراسخة في النظامين، وعلى مدى عقود، إن جميع المواطنين بلا تفرقة أو تمييز، وبعيداً عن كل موروث طائفي أو مذهبي أو عرقي أو مناطقي، هم متساوون في الحقوق والواجبات، وفي الانتماء للدولة القومية الواحدة، المولجة إقامة مجتمع الكفاية والعدل وتحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية. كان ذلك جهة «الصراخ» إذا أمكن القول.

لكن جهة «الهمس» الخافت إلى حده الأقصى، كان كل ما يجري في الواقع يتناقض عميقاً مع هذه الشعارات... وانتهى الأمر في الحالتين بتفكك المجتمع (الذي كان مفككاً على الدوام، جهة «الهمس»)، وبيقظة جماعاته العديدة المتصارعة (وهي كانت متأهبة على الدوام جهة «الهمس»، وتحت الرماد، إلى أن دقت الساعة)، وفتح أبواب التدخلات الخارجية المباشرة على مصراعيها: الإيرانية، والأميركية، والروسية، والتركية، والإسرائيلية...

ويقظة الجماعات المتنافرة في المدى اللبناني والسوري والعراقي، هي نفسها في كل أنحاء المشرق، وإن بأشكال ونسب مختلفة، في العلن جهة «الصراخ»، أم في الخفاء جهة «الهمس».

منذ أكثر من سبعة أشهر، تتوالى الأعمال الحربية على مدى المنطقة.

جهة «الصراخ»، فضاء إعلامي شاسع ينقل الوقائع ومختلف وجهات النظر، ليل نهار، على مدار الساعة. إعلام «المحور الإيراني» يتولى إعلان «الانتصارات» والوعد بمزيد منها، مع الإشارة إلى أن موعد «المعركة الكبرى» لم يحن بعد، تقابله، من الجهة الأخرى تساؤلات وتحفظات لا حصر لها على ما يجري.

وجهة «الهمس»، وفي ظل الصراع التاريخي مع الكيان الصهيوني، تدور النقاشات حول تساؤلات خمسة كبرى: هل سيحقق الشعب الفلسطيني وحدته وحلم دولته في ختام هذه المواجهة، أم ستشتد شرذمته وتكبر خسارته؟ أي وقع لهذا الصراع على الكيان الصهيوني في ظل انقساماته الداخلية والتحديات الحربية غير المعهودة التي واجهته؟ ما مصير العلاقة بين الجماعات المسلحة الموالية لإيران والجماعات غير المسلحة في المنطقة العربية بنتيجة هذا الصراع؟ هل ستكرّس المواجهة الراهنة دور إيران الإقليمي وحضورها بوصفها دولة نووية، وإن من دون قنبلة، أم ستضعها على طريق التراجع وتؤجج مشاكلها الداخلية؟ وما مستقبل الصراع الخفي بين معظم الأنظمة العربية وحركة «الإخوان المسلمين» التي سبق أن دعمتها إدارة أوباما لحكم مصر؟

ويُخشى أن تدوم المواجهة الحربية الراهنة طويلاً، وإن تخللتها هدنة أو هدن.