صحن الطعام الدوار يزور بيوت غزة يوميا

منذ 1 سنة 159

قبل أذان المغرب بدقائق بدأت السيدة سمية بسكب الطعام في الصحون استعداداً للإفطار، لكن هناك طبقاً زائداً على أفراد الأسرة، بصوت عالٍ نادت الأم طفلها الصغير "تعال يما يا خليل خذ هالصحن لجارتنا أم رامي"، وناولته طبقاً من البازلاء باللحم، انتهت من طهوه للتو.

على عجالة نزل خليل من بيته، فلم يعد هناك وقت طويل لموعد الإفطار، ويفترض أن شوارع غزة خالية من المواطنين الذين يتجمعون في هذا الوقت على مائدة الطعام، لكن في مخيم الشاطئ للاجئين غرب القطاع المشهد مخالف تماماً.

عادة متوارثة

كانت الأزقة الضيقة التي تفصل منازل المخيم تعج بحركة الأطفال، وبوضوح كانت تسمع طقطقتهم على الأبواب من كل اتجاه، وهم يحملون أطباق الطعام الدوارة من جار إلى جار، ومن بينهم صحن البازلاء الذي يحمله خليل بيديه.

4.jpg

تسلمت أم رامي الصحن من الصغير، ولسانها يردد الأمنيات الجميلة له وعائلته، وطلبت منه الانتظار على الباب حتى تحمله طبقاً آخر لأمه، تأفف خليل منها لكنه كان مضطراً إلى الانتظار "سلم على أمك، وقلها خدي صحن المفتول ولا تنسى ترجعيه بكرة" قالت الجارة.

مسرعاً أيضاً عاد خليل إلى البيت، وعلامات الضجر واضحة عليه وينطق بكلمات سريعة غير مفهومة، "كل يوم يدخل وقت الإفطار وأنا باوزع صحون الطبيخ لأمي على الجارات، متى ستنتهي هذه العادة؟"، يقول لأمه التي تصر على التمسك بعاداتها التي ورثتها عن أمها وجدتها وكل نساء جيلها اللاتي سبقنهن.

تسميات أخرى

توزيع أطباق الطعام هي عادة قديمة جداً بين الفلسطينيين وتعد من التقاليد التراثية، وفيها تتبادل الأمهات طبقاً من الأكلة الرئيسة مع جاراتهن أو قريباتهن اللاتي يسكن في الحارة نفسها، مما يترك بصمة جميلة على مستوى العلاقات الاجتماعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتسمى هذه العادة بـ"الفقدة" نسبة إلى تفقد حال الجيران الفقراء وغير المأمونين غذائياً، ولها تسميات أخرى منها "السكبة" نسبة إلى سكب نوع من الطعام أي صبه، ويستخدم هذا المصطلح إذا كانت توزع الأطباق على الجيران من الطبقة المتوسطة، وأيضاً صحن الطبيخ والصحن الدوار عندما يجري توزيع الطعام على أفراد الأسرة الواحدة.

وغالباً ما تقع مهمة توزيع "السكبة" على عاتق الأطفال الذين يطوفون البيوت قبيل أذان المغرب، وما إن يعطى الطفل "الطبق الدوار" حتى يطلب منه الانتظار ليعود صحنه مليئاً بـ"فقدة" أخرى.

وفي أغلب بيوت غزة تخصص الأمهات صحناً واحداً يكون مميزاً عن باقي الأطباق في مطبخها تستخدمه دائماً لأغراض السكبة، وعادة ما يكون حجمه كبيراً نسبياً ليتسع لكمية جيدة من الطعام، ويكون هذا الصحن معروفاً بين الجيران أنه تعود ملكيته لأسرة معينة.

وبحسب تقديرات كبار السن في غزة فإن عمر هذه العادة يزيد على 100 سنة، وتنشط هذه العادة طيلة أيام السنة، لكنها تزدهر بوضوح في شهر رمضان، وتعتبرها الأمهات بأنها سفير خير ومحبة يطرق الأبواب ليعمق الود، أو يزيل جفاء حان وقت إقصائه.

لتقليل هدر الطعام

وبالعودة إلى سفرة الإفطار الرمضانية كانت السيدة سمية قد استقبلت للتو ثلاثة أطباق طعام من جيرانها جلبها صغارهم، وتزينت سفرتها الخاصة بالأصناف الغنية من أكلات الجيران، وكما حدث معها حصل مع باقي منازل المخيم.

3.jpg

وعن الصحن الدوار تقول سمية "هذه العادة تزيد من أجواء الألفة بين الناس، فهذا الصحن يحمل معه إلى جانب الطعام مشاعر الحب، ولا تكلف الأسرة أي عبء مالي، فالطعام مطبوخ، ومن المتوقع أن يزيد منه بعد تناوله، ومن الأفضل توزيعه بدلاً من تحويله إلى نفايات أو تركه في الثلاجة حتى يتعفن".

مسؤولية اجتماعية

تعد عادة توزيع الطعام الفائض جزءاً من المسؤولية الاجتماعية، وأحد صور تقليل نسبة إهدار الطعام، وبحسب بلدية غزة فإن هدر الغذاء في غزة أقل من سبعة في المئة، وقد تكون عادة "الفقدة" جزءاً من الأسباب.

وتحاول سيدات غزة توزيع الطعام على العائلات التي ليس بمقدورها طهي غذاء يحتوي على لحم أو دجاج، بسبب الظروف المادية الصعبة، في محاولة منهن لتخفيف حدة انعدام الأمن الغذائي بين العائلات والتي وصلت لنحو 68 في المئة، تشير سمية إلى أنها توزع الأكلات الدسمة مثل المفتول والسماقية والمقلوبة.

لا تهتم سمية وجاراتها لنوعية الطعام الذي يصلهن في الطبق، فأحياناً يكون صنفاً جديداً من السلطات، أو فطائر السمبوسك، ومرة أقراص الكبة، وأخرى طبخة شرقية، تؤكد السيدة أن الأمر لا يقتصر على الطبق المالح، بل أيضاً يجري تبادل صحون الحلويات كالقطائف بعد صلاة التراويح إلى جانب العصائر.

آثار اجتماعية… والشباب: عادة يجب أن تنتهي 

يدور صحن الطعام بين الحارات والأحياء الشعبية والمخيمات بكثرة، لكنه يكاد يتلاشى في المناطق الحضرية وبين العمارات السكنية، تعتقد سمية أن السبب في ذلك الالتزامات المهنية والتباعد الاجتماعي في تلك المناطق.

وللطبق الدوار انتقادات من فئة الشباب، على رغم أنه عادة جميلة، فهذا خليل ابن السيدة سمية يعتقد أن هذه العادة يجب أن تنتهي وتتوقف، وتؤكد جارته الشابة مريم أن استمرار هذه العادة أمر صعب، فالأكلات التي اعتادت عليها أمهاتنا لم تعد موجودة على سفرة رمضان "نحن لم نعد نطهو الطعام الذي كنتم تعرفونه، هناك ستيك وبرغر وبانيه وبشاميل، وكلها طعام مكلف لا نستطيع التوزيع منه بالشكل الذي تفكر به جداتنا".

ولعادة الصحن الدوار آثار اجتماعية مهمة في نظر الباحث في علم النفس الاجتماعي زهير ملاخة، الذي يؤكد أن هذا السلوك يسهم في تقوية النسيج الاجتماعي، ويعكس صورة أن الجيران أشبه بعائلة ممتدة يملأ قلوبهم الخير والبساطة، ويعزز التكافل والتواصل، فلا تجد جاراً محروماً من طعام معين ولو بالشيء القليل. ويقول "هذا التكافل المباشر وغير المباشر يحقق الأمان الغذائي والاستقرار النفسي والوجداني والاجتماعي".