بعد ثلاثين عاماً من «شيء ما» كل يوم، أبلغ الدكتور حسن مدن قراء زاويته في «الخليج» أن شيئاً من التقدم في السن، وشيئاً من تبدلات الصحة، يحملانه على التخلي عن الطقس اليومي والاكتفاء بمقال أسبوعي. سوف أفتقد «شيء ما»، وشفافية صاحبه وتواضعه وغناه الثقافي، ستة أيام في الأسبوع. من مظالم الصحافة أن الكاتب عندما يبدأ العمل فيها يكون ذلك مثل أي عمل يومي رتيب، وحين يقرر أن يغيّر في طقوسه وطقوسنا، يصير هو الحدث.
على مدى ثلاثين عاماً، بنى حسن مدن لنفسه شرفة مشرقة وسمعة جميلة. وفي هذه الحقبة أيضاً حققت صحافة الخليج تقدماً مهنياً بيّناً. وبرزت مجموعة من الكتّاب والاحترافيين النقاء. وعلى نحو ما، انتقل الازدهار الصحافي من المشرق إلى الجزيرة. وعكست الصحافة تلقائياً التقدم الذي حدث في بلدانها.
غير أنه لهذا السبب نفسه أنتجت الصحافة المكتوبة، صحافة كتّاب وزوايا وأعمدة، من دون صحافة صحافيين، وتحقيقات كبرى، وأبحاث مهمة، وهي مجالات ظل يشغلها إلى حد بعيد «الوافدون» العرب.
غير أن نتيجة هذا المزيج كانت صناعة صحافية من الدرجة الأولى. وغلب على الكتاب الاهتمام بالقضايا المحلية، تاركين القضايا الأخرى للصحافيين العرب. وكان الدكتور حسن مدن من البارزين الذين جمعوا بين الاثنين في براعة واجتهاد وخلقية مشهودة. ويستدل من قراءته وكتاباته مدى الإحاطة بالنمو الثقافي في العالم العربي مشرقاً ومغرباً.
مرت فترة اعتقد البعض أن الصحافة الناجحة هي التي تشتم وتهاجم وتتعدى على كرامات الآخرين. وقد زالت هذه الموجة من تلقاء نفسها. وحسن مدن في طليعة الذين أثبتوا أنه في إمكان الكاتب أن يكون مجلياً، وأن يكتب يومياً، طوال ثلاثين عاماً من دون أن يستخدم كلمة جارحة واحدة.
هناك أشياء كثيرة أشعر بندم عليها. يلازمني، ولا أستطيع أن أغفره لنفسي. أسوأ أنواعه، عندما دخلت في مهاترات سخيفة حول قضايا تافهة تسيء إلى سمعة الإنسان مدى العمر. وربما ما بعده. والآن أتساءل في ضيق، أين هم هؤلاء السادة، وأين مكانهم في هذه المهنة، بل هذه الحياة، وما هي أهمية الخلافات التي تنازعنا عليها؟
لات ساعة مندم. وأقة وقاية خير من قنطار (طن) علاج. قرأت مذكرات الكاتب الفرنسي أندري موروا، الذي اشتهر بكتابة سِيَر المشاهير. في هذه المذكرات عن عظماء التاريخ، يتوقف موروا مرة بعد أخرى، عند الذين هاجموه، أو افتروا عليه. كم يبدو هذا العملاق صغيراً في مثل هذه المواقف. تحية إلى الدكتور مدن، كاتباً ونموذجاً.