ملخص
على رغم أن متخصصين يرون عواراً ملحوظاً في ما يسمى بالثراء المزيف والتشبه بمظاهر لا تنم عن الحقيقة فإن بعض الناس بالفعل يحقق مكاسب من وراء هذا النمط من التصرفات بخاصة خلال موسم البحر
طوال أشهر الصيف في مصر لا حديث يعلو فوق حديث الشواطئ في البلاد، والأمر يصبح طاغياً مع تزايد ظاهرة الإلحاح في الدعاية على أن الشواطئ الخاصة هي وسيلة أساسية للوصول إلى مجتمع يطلق عليه بعضهم الصفوة أو النخبة أو المجتمع المخملي الذي هو بطل لميمز كثيرة على الـ"سوشيال ميديا"، بينها أن صناديق قمامته تمتلئ بالأموال في اختصار مجحف ومخل، لكنه يعبر عن صورة جرى العمل على ترسيخها بشدة، واعتمدت على فكرة التعميم غير الدقيق.
وهناك قطاع لا بأس به يرضخ لهذا النوع من الإلحاح الإعلاني يعظم من فكرة الوجود على الشواطئ الحصرية والقرى السياحية الفاخرة الممتدة من البحر الأحمر إلى المتوسط، وهو ما يترجم عادة في انتشار مشاهد يجدها كثير مزعجة تتعلق بتعامل حراس بوابات القرى ذات الشواطئ الخاصة مع الضيوف، الذين يحاولون الدخول لهذا العالم، بخاصة أنه وفقاً لشهادات كثيرة هناك تعنت كبير في إدخال المستأجرين والمدعوين أي غير أصحاب الأملاك هناك، ومن هنا أصبح الجميع يحلم بأن يكون "Owner" مالكاً.
الغرق في الديون في سبيل السباحة الفاخرة
وفي طريق تحقيق هذا الطموح، يحاول المسحورون بهذه الصورة نسج شبكة علاقات والاستمتاع بهذه الميزات الحصرية في رأيهم، مما ينتج عنه ظواهر صيفية عدة باتت تنتشر في مصر خلال هذا الموسم، بينها محاولات بعض المصريين دخول قرى شاطئية بأعينها سواء في الجونة أو الساحل الشمالي أو العين السخن وغيرها، باعتبار هذا علامة أساسية لتحقيق حلم الترقي الطبقي بالنسبة إلى بعضهم، إذ إنها غير متاحة إلا لفئة معينة لديها القدرة المادية على التملك هناك، أو دفع عشرات آلاف في مقابل وقت قصير في فنادق تلك الأماكن.
النتيجة أن الباحثين عن الانتساب يستهلكون مدخراتهم، بل وقد يستدينون سعياً وراء التقاط صورة هنا أو فيديو هناك، فينفقون آلافاً على تأجير الحقائب الفاخرة والسيارات، والأكسسوارات، إضافة إلى الدفع في مقابل العبور فقط من بوابات بعض القرى السياحية، للحصول على بعض الوجاهة التي تُباع ضمن باقة الخطط الدعائية لشركات التسويق العقاري للتجمعات السكنية هناك، التي تصنف طبقياً بصورة معلنة ومعروفة. لكن الأكثر إثارة للانتباه هو أن بعض المصريين لا يمتلك المقومات المالية التي تتيح له هذه التجربة.
مع الفضول الإنساني والحصار الترويجي لتلك الأماكن وضغوط الدوائر المحيطة انتشرت تعبيرات، مثل "سلفة الساحل" و"تفويلة المصيف" و"قرض الشاطئ" و"شراء الملابس الفارهة بالقسط"، وأيضاً "إيجار الحقائب والساعات والنظارات والسيارات"، لإكمال المظهر الذي يعتقد كثر أنهم مجبرون عليه، كي يستوفوا الشروط المتفق عليها عرفياً في تلك الشواطئ، التي تمتد على طول سواحل الجونة والغردقة والإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية ومطروح والفيوم.
وهنا يبقى التساؤل ملحاً ما الذي يجعل شخصاً يقترض ويصبح مكبلاً بعبء مالي وبديون قد ينفق نصف راتبه السنوي لتغطيتها من أجل استعارة مظهر موقت في مكان ما، هو وفقاً للتجارب العملية يحتاج الفرد فيه إلى ما يعادل 200 دولار في الأقل ليقوم بالأنشطة البسيطة فيه خلال اليوم مثل تناول الإفطار وركن السيارة والمكوث على البحر؟!
تجاهل العواقب والرضوخ لإلحاح الدعاية
ترى استشاري علم النفس الدكتورة رباب الششتاوي أن "التقليد والتطلع إلى التشبه بنمط حياة معين" أحد أبرز الأسباب المؤدية إلى تلك الظاهرة، فهؤلاء يريدون أن ينشروا صوراً وفيديوهات من تلك الأماكن، موضحة "تحدث بعض المعايرة بالممتلكات، فيضطر الأبوان إلى محاولة إرضاء أبنائهم فيضعون أنفسهم في ضائقة مالية على رغم عدم اقتناعهم".
لكن الششتاوي تلفت إلى أن هناك فئة أخرى من المفترض أن تكون أكثر نضجاً، لكنها تقوم بالسلوك ذاته وهي "بعض النساء المتشبثات بالمظاهر، اللاتي يزايد بعضهن على بعضهن، فيبالغن في الإنفاق في هذه الأمور". معتبرة أن أي شخص يثق بنفسه، ولديه إدراك ووعي "من المستحيل أن يضع نفسه في مواقف مثل هذه".
كذلك فإن استشاري الطب النفسي، الطبيب هشام ماجد، يرى أن الاستدانة والاستعارة من أجل الإيهام بأن الشخص لديه القدرة المالية للوجود في مكان ما، وإن كان لا يمثل خللاً أو اضطراباً نفسياً صريحاً، لكنه "أسلوب يعبر عما يسمى بتشوهات التفكير، وأبرز مظاهرها اعتقاد الشخص الذي يتمنى الانتساب إلى مكان معين، أن رواده هم صفوة المجتمع".
ويواصل استشاري الطب النفسي "في مرحلة أخرى يبرر الشخص طريقته في التفكير هذه ليقضي على القلق والصراع بداخله، وذلك بالنظر إلى هذا المجتمع بمشاعره وما تصبغها عليه، كما يرتكب خطأ جديداً بأن يقوم بالتصفية العقلية، حين يركز على الدعاية التي ترفع من شأن هذه الأماكن، وأي شيء يناقض هذه الصورة التي رسمها يتجاهله نهائياً، من دون أن ينظر إلى توابع وعواقب تصرفه الذي يؤدي به عادة إلى تعثر مالي".
الشواطئ المجانية تتقلص
يأتي هذا في ظل تصاعد الحديث عن وجود نحو 30 مليون مواطن مصري يعانون الفقر وفقاً لبحث صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قبل نحو أربعة أعوام، وهي النسبة التي لم تحدث بعد موجات تعويم العملة خلال العامين الأخيرين، إذ الدولار الأميركي الواحد بات يساوي ما يقارب 50 جنيهاً.
كذلك تأتي وسط نقاش محتدم حول الحق قي الشواطئ توازياً مع تقلص نسبة الشواطئ العامة المفتوحة مجاناً للمواطنين، فوفقاً لإحصائية لمركز حلول للسياسات البديلة مستندة إلى أرقام رسمية فإن نصيب كل 210 أفراد في مصر هو متر واحد فقط من الشواطئ العامة، إذ تزيد الشواطئ الخاصة عن نظيرتها المفتوحة من دون مقابل للجمهور بأكثر من 120 ألف متر في مساحتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما هو جدير بالتسجيل أن بعض الشواطئ التي تصنف على أنها حكر على من يدفعون عشرات الملايين جراء اقتناء وحدة في تجمع سكني معين باتت تتطلب وفقاً للشائع أسلوب حياة معيناً، وهي أمور ترسخها صور مؤثري الـ"سوشيال ميديا"، فبدلاً من أن يجري الترويج لفكرة الرحلة الشاطئية المريحة التي تساعد على الاستجمام يبحث كثر عما يسمى مستلزمات أساسية، لارتياد تلك الشواطئ مثل اقتناء حقائب من ماركات عالمية باهظة، والتزين بأكسسوارات على شاكلتها والتنقل بسيارات فارهة، إضافة إلى الملابس والأحذية التي يجب أيضاً أن تكون عنواناً للرفاهية لتتماشى مع الأجواء الشديدة الانتقائية.
اللافت أن مظاهر تلك الأماكن التي تزداد صخباً عاماً بعد عام أصبحت مثار استغراب ودهشة حتى لرواد تلك المناطق أنفسهم. ترصد سارة، أم شابة لطفل وحيد، التي اعتادت الذهاب إلى الساحل الشمالي منذ أعوام عدة كيف تحول الأمر أخيراً إلى مسابقة غريبة في المظاهر: "قبل عامين فوجئت بصديقة لي تطلب استعارة إحدى حقائبي، وهي كانت المرة الأولى التي تطلب فيها مني شيئاً كهذا، بالطبع وافقت والغريب أنها أخبرتني أنها اضطرت إلى هذا التصرف، لأنها كانت تشعر أنها (نشاز) وسط مجتمع الساحل الذي كانت قد زارته مرتين أو ثلاثاً قبل هذا الموقف". مندهشة من أن بعض الكماليات "تحولت إلى ضروريات في هذا المجتمع، وبدلاً من أن الشواطئ تساعد على التخفف من القيود فإن ما يحدث هو العكس".
ثراء مستعار ومظهر باهظ
هذه الضغوط جعلت هناك سوقاً معروفة لتوافر هذا المظهر، مما ترتب عليه أن يلجأ كثر إلى استئجار حقائب أصلية فاخرة وساعات وأكسسوارات ونظارات شمسية من علامات تجارية ذائعة الصيت، في مقابل بضعة آلاف في الأسبوع، نظراً إلى عدم مقدرتهم على شرائها في مقابل عشرات آلاف وربما الملايين، الأمر لا يقتصر على الأكسسوارات، إذ اتجه إلى نوعية سيارات معينة رائجة للتنقل في قرى سياحية شهيرة بعضها ارتبط بأسماء نجوم بعينهم، سواء من روادها أو من دأبوا على إقامة حفلات غنائية بها، والهدف الأساس "التقاط صورة متكاملة تصلح للنشر في مجتمع الـ’سوشيال ميديا‘".
ومبدأ الاستعارة هنا يتساوى فيه الرجال والنساء، سواء في ما يتعلق بالمظهر أو الاستدانة من أجل الإقامة في الوحدات المستأجرة أو الفنادق، إذ تصل كلف الإقامة في بعض الفنادق بالأماكن التي باتت ذات سمعة "فاخرة" في عالم المصايف في مصر إلى نحو 1000 دولار في الليلة الواحدة وربما أكثر.
الجهات المصرفية في البلاد لم تكن بمنأى عن تلك التحولات الاجتماعية، إذ بعض البنوك باتت تقدم قروضاً من أجل هذه الأغراض، وكذلك تطبيقات كثيرة تغري مشتركيها أيضاً بسفريات إلى تلك المناطق من طريق إرجاء الدفع لوقت لاحق، سواء في ما يتعلق بمصاريف ملحقات السفرية أو حتى ثمن بنزين السيارة أو تقسيط سعر الرحلة ككل، وهو أمور كلها مستحدثة، وتؤكد أن هذه المؤسسات تعلم الرغبة الشديدة لدى قطاعات من الجمهور بخوض تلك التجربة حتى لو كانوا أصحاب دخل محدود أو أقل من المحدود.
التباهي في مقابل تحقيق المنفعة
يذهب أستاذ الصحة النفسية الأكاديمي حمدي أبو سنة، إلى الحديث عن مدى سواء الشخص الذي يتوجه ناحية الاقتراض من أجل الشعور المزيف بالترقي الطبقي، "هذه علامات بعيدة كل البعد عن صفات الشخصية السوية، التي من أبرز مظاهرها مدى تحمّلها المسؤولية وكذلك التفكير في عواقب أي تصرف تقوم به".
ويشدد أبو سنة على أن "من حق الجميع الترفيه عن أنفسهم، لكن كل وفق إمكاناته، الإنفاق المبالغ فيه على أمور لا تستحق هو نوع من السفه حتى لو كان الشخص لديه المال بالفعل، ولن يضطر إلى أن يضغط نفسه". معتبراً أن لجوء بعض الناس إلى "محاولات التشبه بنمط ما يتعلق بسطحية التفكير، التي تؤدي بصاحبها إلى أن يستمد قيمته النفسية من الوجود في مكان معين وحول أشخاص محددين، على رغم أن الطبيعي أن يستمدها من داخله، وأن يعقد مقارنات مع نفسه لا مع الآخر".
ويلفت أستاذ الصحة النفسية إلى أن السوشيال "مؤثر أساس في انتشار هذه الأفكار غير السوية، لأنها تكرس مبدأ الحكم المظهري، الذي يميل أصحابه إلى التباهي والتفاخر والبحث عن القيمة، من خلال صورة أو فيديو يحصد علامات الإعجاب، الذي يؤدي إلى الهوس تدرجاً، وكذلك مزيد من عدم السوية، التي قد تصل بصاحبها إلى الاكتئاب، نظراً إلى أن عواقب مثل الديون والمتعة اللحظية سوف تصل بالإنسان في وقت ما لإدراك أنه غير موفق في قراراته".
الثراء المستعار، ربما وصف يمكن إطلاقه على تلك الموجة التي باتت رائجة في مصر أخيراً، التي تتعلق بالهوس بمحاولات ارتياد أماكن معينة عرفت بأنها علامة على انتماء صاحبها إلى طبقة عليا مجتمعياً ومادياً، وكأنها تمنح أصحابها امتيازاً، إذ يجري القياس هناك بالحيثيات المالية للشخص وبمجال عمله ووظيفته، فالدعاية الضاغطة تجعل كثيراً ممن يبحثون عن المظهر، ويرغبون في الانتماء إلى هذا المجتمع أملاً في الحصول على مكتسبات وشراكات عمل تتيح لهم تنمية مصالحهم، حتى لو كانت الكلف التي سيدفعونها لا يمكن أن يتحمّلوها بسهولة، والحقيقة أن بعضهم قد يستفيد بالفعل من هذا التصرف، على رغم كل نواقصه وعدم سلامته وفقاً لآراء المختصين.
تشير مسوّقة عقارية تروج أساساً لهذه النوعية من الأماكن، إلى أنها لا تزال في بداية حياتها المهنية، ودخلها لا يمكن أن يغطي كلف متطلبات هذه الشواطئ، إذ تضطر إلى استئجار ملابس وحقائب وحتى شعر مستعار وأدوات ماكياج ونظارات، بأسعار تقدر عليها وفق ما تقول، كما أنها بحكم مهنتها لا تواجه أزمة في عبور بوابات القرى الحصرية على شواطئ البحر الأحمر على سبيل المثال، إذ تعمل حالياً على تسويق أحد المشاريع العقارية هناك.
وتشير إلى أنها بهذه الطريقة "تتمكن من التعرف إلى عملاء محتملين وتضيفهم إلى قاعدة بياناتها مما يزيد من فرصها في النجاح في الترويج للوحدات السكنية مستقبلاً، فهي تدفع مقدماً كي تحصل على فائدة مباشرة لن تحدث في رأيها إلا باكتمال الشكل العام". مؤكدة أنها "لا تخدع أحداً وكل ما تفعله أنها تدرك قيمة المظهر في مثل هذه الصفقات".