شم النسيم... عيد الخلق والحياة في مصر القديمة

منذ 1 سنة 140

على رغم أنه يأتي دوماً نهار الإثنين اللاحق لعيد الفصح، بحسب التوقيت الشرقي، فإنه لا يعتبر عيداً مسيحياً، بل يوم وطني لمصر القديمة، وعيد للمناخ والفصول، لا سيما الربيع، ناهيك بمضمونه الحامل لكثير من أسرار ورموز مصر الفرعونية، إنه شم النسيم.

عيد لا تجد له مثيلاً في بقية دول العالم حتى المسيحية، ولا تعرفه الدول الأفريقية التي يمر نهر النيل فيها، دلالة على أنه تقليد مرتبط بحضارة وفكر المصريين الذين عمروا هذه الأرض قبل نحو سبعة آلاف عام.

يرجع الاحتفال بشم النسيم إلى قرابة خمسة آلاف عام مضت، بالتحديد كما تقول عديد من الكتابات التاريخية إلى عام 2700 قبل الميلاد، ومن عند أواخر الأسرة الثالثة الفرعونية.

وهناك رواية أخرى تقطع بأن الاحتفال بشم النسيم يرجع إلى عصر ما قبل تكوين الأسر المعروفة، ويقررون أنه كان معروفاً عند بعض المؤرخين في مدينة "هليوبوليس" و"مدينة أون".

أصل التسمية

تعود التسمية إلى الكلمة الهيروغليفية "شمو" التي تعني اليوم الذي بدأ فيه "بتاح" إله الخلق العظيم خلق الإنسان، وهو الإله الذي لا يزال المصري المعاصر يناديه، في بداية صباحه كل يوم بقوله "يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم"، وهي مناجاة للإله بتاح إله الخلق.

ومع مرور القرون أضيف إلى "شمو" كلمة "النسيم"، لارتباط اليوم بالتغير المناخي، واعتدال الطبيعة في فصل الربيع، وحلول الأجواء اللطيفة التي تمكن المصريين من السفر عبر نهر النيل وتنسم لطائفه، وفيه يحدث "الانقلاب الربيعي"، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار ويحدث فيه حلول الشمس في برج الحمل.

كان المصريون يجتمعون في هذا اليوم أمام الواجهة الشمالية للهرم قبل الغروب، ليشهدوا غروب الشمس، حيث يظهر قرصها وهو يميل في الأفق نحو الغرب مقترباً تدريجاً من قمة الهرم، حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق الهرم الأكبر، هرم خوفو العظيم.

في تلك اللحظة يحدث شيء عجيب، حيث تخترق أشعة الشمس قمة الهرم، فتبدو واجهة الهرم أمام أعين المشاهدين وكأنها انشطرت إلى قسمين. والثابت أن هذه الظاهرة لا تزال تحدث مع مقدم الربيع في الحادي والعشرين من مارس (آذار) من كل عام، في الدقائق الأخيرة من الساعة السادسة مساء، نتيجة سقوط أشعة الشمس بزاوية معينة على الواجهة الجنوبية للهرم، فتكشف أشعتها الخافتة الخط الفاصل بين مثلثي الواجهة اللذين يتبادلان الضوء والظلال، فيبدو وكأنهما شطران.

كان أول من رصد هذه الظاهرة المرتبطة بـ"شم النسيم" العالم الفلكي والرياضي "بركتور"، الذي تمكن من تصوير لحظة انشطار واجهة الهرم في عام 1920، كما استطاع العالم الفرنسي أندريه بوشان تسجيل تلك اللحظة المثيرة باستخدام الأشعة تحت الحمراء، وكان ذلك في عام 1934.

والمعروف أن للمصريين القدماء قصة مع شروق الشمس وغروبها، إذ يعتبرون الشروق بداية جديدة للحياة، يهب فيها إله الكون فرصة ثانية لجميع الكائنات التي ماتت مع غروب الشمس، لتحيا من جديد.

ولهذا السبب كانت مقابر المصريين القدماء عادة ما توجد في الجانب الغربي من النيل، أو البر الغربي، وحتى في المدن التي تبعد عن النهر الخالد، كانت تحفر الجبانات أو المدافن في اتجاه الأفق الغربي من جغرافيا المكان.

هيرودوت وقصة السمك المملح

من أكثر الظواهر الملازمة ليوم شم النسيم في مصر القديمة والحديثة على السواء وجود أكلات معينة تمتد جذورها إلى آلاف عدة من السنين، وفي المقدمة منها أكل الفسيخ أو السمك المملح، وهذه قصة قائمة بذاتها، ولها دلالات أبعد من مجرد الحديث عن الأكل بمعناه المجرد إلى رمزية المأكولات عينها.

يروي المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت، الذي زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد، كيف أن المصريين القدماء كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم، وكان قدماء المصريين قد أظهروا براعة شديدة في حفظ الأسماك وتجفيفها وتجهيزها للأكل في ذلك النهار.

كما ذكر الفيلسوف اليوناني بلوتارك أن المصريين القدماء حرموا صيد بعض أنواع الأسماك المقدسة أو لمسها أو أكلها، مثل قشر البياض وفتيل البياض وثعبان الماء والبني والقتوم.

وقد عرف المصري القديم سمك البياض بنوع خاص، وظهر ذلك في عديد من البرديات والنقوش في العصرين الإغريقي والروماني.

غير أن مصر التي دخلتها المسيحية استطاعت هضم كل رموز الدين الجديد، واحتوائها ضمن سبيكتها الحضارية ونسيجها المجتمعي، وقد كان للأسماك قصة خاصة في هذا السياق.

كان للسمك مكانة خاصة في تاريخ المسيحيين الأوائل، وهناك في الأقل أربعة من حواريي السيد المسيح كانوا يشتغلون بمهنة الصيد، ومنهم بطرس كبير الحواريين الصياد الأشهر في التاريخ المسيحي.

عطفاً على ذلك كان آباء الكنيسة يشبهون المسيحيين بالسمك، لأنه يتم اصطياد الآلاف منه من البحر حتى ليظن أن السمك قد انتهى من البحر، لكنه لا ينتهي، وهكذا المؤمنون في أيام الاستشهاد يقتل الآلاف منهم، ويظن الحكام الرومان أنهم انتهوا لكن هذا لا يحدث.

وفي العصور الأول للمسيحية كان السمك علامة التعارف بين المسيحيين وكلمة السر للهرب من اضطهاد الأباطرة مثل دقلديانوس وغيره من ولاة الإمبراطورية الرومانية.

لماذا البيض في شم النسيم؟

لا يخلو بيت مصري صباح شم النسيم من كل عام من البيض المسلوق الملون، الذي ارتبط بهذا اليوم بشكل خاص دونما بقية أيام العام، وهذا أمر له قصة خاصة في التاريخ المصري القديم أيضاً.

يحمل البيض رموزاً خاصة للخلق من الجماد، وقد صورت بعض برديات مدينة منف، الإله بتاح، إله الخلق عند المصريين القدماء، وهو يجلس على الأرض على شكل بيضة جامدة.

تبدو رمزية البيض مثيرة للتأمل في مصر القديمة، ومصر ما بعد المسيحية على حد سواء. أما مصر القديمة التي يطلق عليها البعض تجاوزاً مصر الفرعونية، فالبيضة تعني الخلق الجديد، حيث يخرج الكتكوت الصغير منها، أي من العدم إلى الحياة، ويبدو صغيراً ضعيفاً كما بداية كل شيء.

من هنا يتفهم المرء، لماذا كانوا ينقشون على البيض دعواتهم وأمنياتهم للعام الجديد، ويضعونه في سلال من سعف النخيل، ويعلقونها في شرفات المنازل أو في أغصان الشجر، لتحظى في هذا النهار تحديداً، أي نهار شم النسيم، ببركات نور الإله عند شروقه فيحقق أمنياتهم.

وكما جرى مع السمك وتضمين معانيه المسيحية في حياة المصريين الأوائل الذين قبلوا الديانة المسيحية، هكذا أيضاً جرى الحال مع البيض، إذ اعتبر هؤلاء أن خروج الكتكوت الصغير من جوف البيضة المظلم إلى الحياة والنور رمز ودلالة لقيامة السيد المسيح من ظلمة القبر، بحسب الإيمان والمفهوم المسيحي، ليضاف بعد آخر من الأبعاد الرمزية لهذا النهار، إلى تلك المسيرة الحضارية المصرية القديمة.

اليوم وربما لضيق الوقت، لم يعد هناك من يكتب على البيض، وحتى تلوين البيض صار رفاهية وقت لا تتوافر لكثيرين في ظل ضغوط الحياة، وبات الأمر مقصوراً على البيض الملون في بعض الأماكن، الذي يأخذ أشكالاً من الشوكولاتة في أنواع أخر يتهادى بها كبار القوم وعليته، نظراً إلى ارتفاع أسعار تلك السلع التي تعد من قبيل سلع الرفاهية والكماليات، لا من ضرورات الحياة، ماذا أيضاً عن مصر القديمة في نهار شم النسيم؟

السر التاريخي والحضاري للبصل

ربما لم يأتِ ذكر كثير من الأطعمة في الكتب المقدسة، غير أن البصل تحديداً ذكر في التوراة والقرآن، وقد كان أحد أسباب غضبة بني إسرائيل على نبي الله موسى، واتهموه بأنه أخرجهم من أرض مصر التي فيها البصل، وجاء بهم إلى صحراء سيناء حيث المن والسلوى اللذين لا يضارعان البصل والعدس في المذاق والطعم.

كان البصل من أهم الأطعمة التي يحرص المصريون القدماء على تناولها، لا سيما في المناسبات المهمة، وقد ارتبط البصل عندهم بإرادة الحياة وقهر الموت والتغلب على المرض، فكانوا يعلقون البصل في المنازل وعلى الشرفات، كما كانوا يعلقونه حول رقابهم ويضعونه تحت الوسائد، وما زالت هذه العادة منتشرة بين كثير من المصريين حتى اليوم.

ولعله من المثير أن كثيراً من الممارسات الطبية الحديثة تستخدم البصل لتخليص الجسم البشري من السموم، من خلال لفه حول الساق في وقت الموت الصغير، أي النوم، ونزعه مع الاستيقاظ أي العودة إلى الحياة مرة جديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم يظهر البصل، بحسب عبدالمنعم عبدالعظيم الباحث في مركز التراث للصعيد، على موائد القرابين إلا في عهد الأسرة الخامسة، فكان يستعمل في الوصفات الطبية لعلاج عديد من الأمراض، وقد ظهر ضمن أطعمة شم النسيم في أواسط الأسرة السادسة، حيث ارتبط ظهوره بأحد أساطير منف القديمة التي يقوم فيها البصل بدور كبير في شفاء أحد أطفال ملوك المصريين القدماء، بعد أن عجز الأطباء الاعتياديون عن مداواته بما لديهم من مساحيق تقليدية.

كان البصل يسمى في مصر القديمة "بدجر أو بصر"، وقلبت الراء إلى لام، في اللغات السامية، بخاصة العربية، كما وجدت بعض النقوش الهيروغليفية في تقديس البصل.

وللبصل كذلك قصة ترتبط بمفاهيم الخلق والحياة والعالم الآخر، وليس منتجاً زراعياً مهماً من حيث قدراته الغذائية على مقاومة الأمراض.

 أحب المصريون القدماء البصل، واعتقدوا أن شكله الدائري وحلقاته متحدة المركز ترمز إلى الحياة الأبدية، وبالنسبة إليهم كانت طبقات البصل العديدة تمثل دوائر الجنة والأرض والجحيم، لذلك وضعوا هذا الخضراوات بين رفات الموتى وقبور الفراعنة، لمرافقة أرواحهم في الحياة الأخرى، كما تظهر رسومات البصل على الجدران الداخلية للأهرامات وفي المقابر الملكية، حيث تظهر الرسوم أحياناً أحد الكهنة يبارك البصل ويضع أوراقه وجذوره عند المذبح.

استخدم البصل في المومياوات المحنطة، وكثيراً ما عثر عليه في مناطق الحوض والصدر، أو مفلطحاً في الأذنين وفوق العيون، وكذلك على باطن القدمين والساقين.

ووفقاً لجامعة نيومكسيكو بالولايات المتحدة الأميركية، فإنه حين دفن رمسيس الرابع عام 1160 قبل الميلاد وضع البصل في تجاويف عينيه، فيما يفترض بعض علماء المصريات أن البصل كان يستخدم ربما بسبب الاعتقاد أن رائحته القوية ستدفع الموت إلى التنفس مرة أخرى، وهناك تفسير آخر يقول إن خصائص البصل المطهرة القوية قد تكون مفيدة في الحياة الأخرى.

ملامح الاحتفال بشم النسيم

بالرجوع إلى كتابات الأولين من المصريين القدماء، وهذا ما يشير إليه مفتش معابد الكرنك، صلاح الماسخ، نجد أنه كانت هناك شعائر خاصة بالمؤمنين في هذا النهار، وهي عبارة عن الطواف حول مبنى مقدس، إضافة إلى تقديم الذبائح التي تصاحب الاحتفال، وكانت هناك أنشودة تخلد ذكرى احتفال في طيبة تقول "ما أشد سرور معبد آمون في العام الجديد عند ذبح الضحايا، حيث يتقبل آمون أشياءه الجديدة وتنحر ثيرانه بالمئات".

وفي ذلك النهار كان هناك دائماً مكان على مائدة المصريين القدماء لنبات الخس، الذي عرف منذ الأسرة الرابعة، وقد سموه بالهيروغليفية "عب"، واعتبره المصريون القدماء من النباتات المقدسة، فنقشوا صورته تحت أقدام إله التناسل عندهم.

وقد لفت ذلك أنظار علماء السويد في العصر الحديث، فأجروا التجارب والدراسات على نبات الخس، وكشفت البحوث والدراسات عن حقيقة عجيبة، فقد ثبت لهم أن ثمة علاقة وثيقة بين الخس والخصوبة، واكتشفوا أن زيت الخس يزيد من الخصوبة الجنسية، لاحتوائه على فيتامين "ه"، إضافة إلى بعض هرمونات التناسل.

اختلفت ولا شك مظاهر الاحتفالات بعيد شم النسيم في القرون الحديثة، وإن تناقلت الأجيال بعضاً من مظاهر الاحتفالات، وممارسة شيء من الطقوس بصورة عصرانية، وإن ظل نهر النيل يمثل ركيزة أساسية في الاحتفالات.

استرعى الاحتفال بشم النسيم انتباه المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين، الذي زار القاهرة عام 1834، فوصف احتفال المصريين بهذا العيد بقوله "يبكرون بالذهاب إلى الريف المجاور، راكبين أو راجلين، ويتنزهون في النيل، ويتجهون إلى الشمال على العموم، ليتنسموا النسيم، أو كما يقولون ليشموا النسيم، وهم يعتقدون أن ذلك اليوم ذو تأثير مفيد، ويتناول أكثرهم الغداء في الريف أو في النيل، وهي العادات نفسها التي ما زال يمارسها المصريون حتى اليوم".

شم النسيم حلال أم حرام؟

على أن آفة الأصولية ووباء التشدد الذي حل بالعالم العربي خلال العقد الماضي لم يكن ليوفر احتفالات شم النسيم، وليطرح تساؤلاً حول شرعية هذه الاحتفالات من حرمانيتها.

علت بعض الأصوات التي تقول إن هذا عيد يخص الفراعنة وهؤلاء كانوا كفاراً، ولذا فإنه لا يتوجب مشابهتهم.

غير أن هذا الرأي المتشدد حتى التعصب المقيت وجد أصواتاً عاقلة رصينة، مثل سعاد صالح، أستاذ علم الفقه المقارن بجامعة الأزهر، ترد عليه معتبرة أن شم النسيم "إرث حضاري للشعب المصري"، ومن الموروث الثقافي الذي لا علاقة له بأي معنى أو مبنى ديني.

والجدير بالذكر أن شم النسيم في السنوات الأخيرة يأتي مواكباً لشهر رمضان، ولهذا فإن الاحتفالات النهارية تكون شبه نادرة، لكن مع دوران عجلة الزمان ومجيء شم النسيم في توقيت غير رمضاني، تعود الاحتفالات من جديد، لتحتل مكانتها في تاريخ المصريين.