"ارتأيت أن التصرف الصحيح هو أن آتي إلى هنا وأقدم يد المساعدة"، هذا ما قاله لي طوم هيوز، الرجل ذو الإطلالة المميزة والذقن غير المحلوقة - الذي يقود مبادرةً تابعة لمؤسسة "شافانز تراست" Siobhan's Trust الخيرية الاسكتلندية في أوكرانيا، وتستهدف إحياء الأمل لدى الناس من خلال تقديم البيتزا لهم.
ويضيف المتطوع في العمل الخيري، "بعدما أمضيت كثيراً من الوقت في العيش في ظل هذا المستوى من الرعب، أصبح من الواجب الأخلاقي تقديم المساعدة ما أمكن. وعندما كانت تتساقط الصواريخ، كنا نشغل الموسيقى ونواصل الطهي".
يرتدي هيوز هنداماً على شكل تنورة (لباس اسكتلندي تقليدي للرجال) يحمل اللونين الأصفر والأزرق اللذين يتسم بهما العلم الوطني الأوكراني، وقد قاد بفخر مجموعةً من المتطوعين الدوليين في مهمة استهدفت إحياء الأمل والبهجة، وتوفير الطعام لمدنيين في مناطق شرق أوكرانيا.
أمضى طوم وفريقه أكثر من عام على بعد أميال قليلة من خط الجبهة الأوكرانية ضد القوات الروسية الغازية، وقاموا وهم يحاولون تجنب وابل مستمر من القصف بالصواريخ والقذائف والطائرات بلا طيار، بزيارة مئات البلدات والقرى هناك (بعضها حصل بعد ساعات قليلة فقط من تحريرها) لطهي الطعام للسكان المصابين بصدمات نفسية، ولمئات الآلاف من النازحين داخل البلاد.
كان طوم والمتطوعون المنضوون في فريقه يقدمون ما يصل إلى أربعة آلاف قطعة بيتزا في اليوم، وقد أعدوا أكثر من مليون قطعة بيتزا "مارغريتا" لأوكرانيين أعربوا عن امتنانهم لهم، نظراً إلى الظروف المضطربة التي يواجهونها على حافة الصراع.
وعلى رغم خطر التعرض لهجمات محتملة، ظل أفراد فريق المبادرة يشغلون حافلاتهم كل يوم، ويتوجهون إلى مناطق كانت في صدد التعافي من الهجمات. وشكل حضورهم شعاع أمل نادراً سطع في الحياة اليومية لأفراد عاشوا قرابة 18 شهراً تحت التهديد الوجودي اليومي، فمن أنقاض مدينة خاركيف التي تمت استعادتها أخيراً، إلى مدينة خيرسون التي شهدت قصفاً يومياً، غطت الشاحنات المعدلة خصيصاً والتابعة لمؤسسة "شافانز تراست" خط المواجهة بكامله، ويبلغ طوله 600 ميل (966 كيلومتراً).
وكانت قافلة عاملي الجمعية الخيرية الاسكتلندية، تربض على الفور شاحناتها المخصصة لهذه المهمة في كل موقع تزوره، وتشرع أبوابها لتكشف عن سلسلة من أفران البيتزا، التي كانت تفوح منها الرائحة الجذابة للعجين المخبوز والجبن الذائب، مصحوبةً بقائمة تشغيل موسيقية صاخبة، ليشكل الفريق منارة أمل في المجتمعات التي دمرتها المصاعب.
الحشود تبدأ في التجمع من خلف المباني الشاهقة والأنقاض والملاجئ. معظم أفرادها هم من النساء والأطفال والكبار في السن، فيما بعض منهم يحاول التعامل مع فقدان أحبة لهم، ومنازل، وغياب أقارب يشاركون في القتال على الجبهات. ويمكن القول إنه لا توجد أسرة واحدة هي في منأى عن آثار هذه الحرب. فكل شخص تقريباً لديه أحد من أفراد أسرته يخدم على الجبهات، فيما تكبد كثيرون خسائر كبيرة نتيجة اجتياح القوات الروسية لبلداتهم.
إضافةً إلى البيتزا، يعد طوم وفريقه متعدد الجنسية، أطباقاً من الحلويات، ويقدمون طلاء الوجوه للأطفال، ضمن أجواء مفعمة بالموسيقى والرقص. وفي الوقت الذي يجد فيه المحتشدون أنفسهم غرباء عن تلك الأجواء الاحتفالية في الآونة الأخيرة، تطغى عليهم مشاعر من الحيرة والارتباك وسط وصول مثل هذه المجموعة النابضة بالحياة، ويبدأون تدريجاً في الشعور بالرسالة القوية التي تريد إيصالها لهم، ومفادها، أن العالم الخارجي لم ينسَهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأشهر الـ 17 الأخيرة أحدثت تغييراً جذرياً في حياة طوم، فالرجل البالغ من العمر 42 سنة، وهو في الأساس من مقاطعة ويلتشير (جنوب غربي إنجلترا)، لم يسبق له أن ذهب إلى منطقة حرب، أو قام بعمل إنساني من قبل، لكنه قرر أن يقدم المساعدة عندما بدأ القتال، وانتقل ربان اليخوت والمطور العقاري السابق إلى الحدود بين أوكرانيا وبولندا في مطلع مارس (آذار) من العام الماضي، لتقديم المساعدة في أزمة اللاجئين.
وعندما كان هناك، أجرى اتصالات مع جمعية "شافانز تراست" الخيرية، من خلال صديقه هاري سكريمغور وهو أحد أمناء المؤسسة الخيرية، وابن شافان داندي الذي تحمل المؤسسة اسمه، وبحلول أبريل (نيسان)، عندما كان عدد أقل من اللاجئين يعبرون الحدود، قرر الاثنان شراء شاحنة، ونقل جهودهما إلى أوكرانيا.
ويقول طوم، "بدأنا العمل في غرب البلاد، وكان مقرنا في مدينة لفيف، ثم شققنا طريقنا تدريجاً نحو مناطق الشرق، وأقمنا اتصالات وتعلمنا طريقة التعامل مع الظروف الأشد صعوبة بالقرب من خطوط المواجهة، أما الآن فلدينا فريق لغرب أوكرانيا في مدينة لفيف، وآخر يتولى شرق البلاد، وهو متنقل يعمل مع المجتمعات التي تعاني من القصف الروسي".
قد يكون صعباً في بعض الأحيان ترك أثر في نفوس هؤلاء الأفراد، فوفقاً لطوم، "يعتمد الأمر على خلفيات الأشخاص وانتماءاتهم، ومدى معاناتهم من صدمات تركت أثراً في حياتهم، على سبيل المثال، كل الذين نجوا من أهوال ما جرى في مدينة ماريوبول يعانون من صدمة عميقة".
ويضيف "في البداية، نبدأ عادةً بمشاهدة الأطفال يظهرون بعض الفضول ويرسمون ابتسامات، ثم يسترسلون في الضحك، وعندما تتلمس أمهاتهم وأجدادهم ردود الفعل الإيجابية لديهم، يسود شعور بالاسترخاء". ويعتبر طوم أن "مهمته تكون قد أنجزت عندما ينضم المسنون المشار إليهم بـ "بابوشكاس" Babushkas، إلى أجواء البهجة ويشرعون في الرقص".
وفيما يتبختر طوم بقميصه ذي الألوان الوطنية الأوكرانية المتدلي فوق هندامه الاسكتلندي التقليدي الزاهي، والمزدان بحقيبة مشدودة إلى خاصرته، يجذب انتباه المارين وإعجابهم أينما ذهب. لكن الأمر لا يقتصر على البيتزا والموسيقى فقط، إنه عمل يشكل أهمية التواصل البشري، فقد اتسم هو وفريقه بتعاطفه مع الآلاف من الأشخاص، والإصغاء إليهم بعناية منذ لحظة وصولهم.
ويعلق بالقول "في معظم الأماكن التي كنا نذهب إليها، يأتي الأطفال لتقديم المساعدة، ويبدون مرحين حقاً في البداية، ثم عندما يثقون بك، يجلسون في زاوية هادئة ويفصحون عن مكنوناتهم بقول أشياء مثل ’إن والدي هو في الخطوط الأمامية للقتال، ولا يمكنني تحمل ذلك بعد الآن، هل يمكنني أن أصنع البيتزا معكم؟"
ومع انعدام الرحلات الجوية من أوكرانيا وإليها، تستغرق الرحلة من لندن ما لا يقل عن ثلاثة أيام، ومدة أطول للوافدين من خارج أوروبا، هذا يعني أن الأشخاص الأكثر تفانياً هم الذين يتطوعون، وكثير منهم يبقون ملتزمين تقديم المساعدة، بحيث مضى على عدد منهم أكثر من عام.
لا يخلو هذا العمل من ثمن ما على الصعيد الشخصي، ويقول طوم "قد تمر بضعة أسابيع لا يحدث فيها الكثير، ثم نواجه فترات تنهال فيها الطلبات علينا بين عشية وضحاها، لأسابيع متتالية.
إن فريقي يعاني من صدمة نفسية، إذ يتعين عليه التعامل مع تساقط الصواريخ كل ليلة على البلدة التي يكونون فيها، ومن المستحيل أن تفهم هول ما يدور لو كان ذلك يحدث لبلدك".
إلى متى تستمر مهمة تحضير البيتزا هذه؟ يجيب طوم "ما نقوم به يصنع فارقا وأنا مؤمن بذلك، فنحن نساعد على مكافحة الصدمات الناجمة عن الضربات الصاروخية التي تطاول المدنيين كل يوم، ونعمل على بعث الأمل في نفوس كثير من الناس الذين يفتقرون إليه، وبما أننا استطعنا تحقيق النجاح، فإنني أشعر بالعزم على المضي قدماً في مواصلة هذه المهمة".
https://siobhanstrust.uk