شباب يعبرون عن غضبهم على السوشال ميديا بسبب سئمهم من العمل بدون مقابل

منذ 1 سنة 144

لمة الجمعة حول وجبة البيتزا. وأيام مخصصة لإحضار كلبك معك إلى العمل. وأيام تقضونها خارج المكتب، وتلعبون لعبة المغامرة، "الهرب من الغرفة". كلها حيل معروفة جداً يستخدمها المديرين لمداهنة القوى العاملة الطيعة على رغم خفض القيمة الحقيقية للأجور. ومع ذلك، ما زلنا نقع في الفخ نفسه. وفي الواقع، ربما تقرأ هذا الكلام بعدما فرغت من العمل ساعات إضافية للمرة المليون هذا الشهر، بسبب إيمانك - وأملك - بأن يضمن لك ذلك تطوراً وظيفياً غير محدود جداً وموازنة لحفلة عيد الميلاد لا تغطي سوى الجولة الأولى من المشروبات. لدي أخبار سيئة لك، قد لا تغطيها حتى.

لكن لا تهتم لذلك، فلا أحد يمكنه أن يغش الموظفين الشباب العاملين وفق الدوام التقليدي، إذ يروحون عن أنفسهم بعد يوم عمل سيئ في المكتب أو سيل لا ينتهي من الاتصالات غير المجدية عبر "زوم"، من خلال عالم الشركات على "تيك توك". هنا، تثور ثائرة صانعي المحتوى ويعبرون عن سخطهم ويفرغون ما في جعبتهم عن العادات السامة لدى أرباب العمل فيقدمون لكم نصائح في كل المواضيع، من الأمور التي تثير الارتياب في مكان العمل إلى المعنى الحقيقي لخطة تحسين الأداء الوظيفي سأفسد المفاجأة عليكم: سيطردونكم) .بعض صانعي المحتوى يصورون حتى عملية تقديم استقالتهم في فيديوهات سميت "استقالة توك").

من رماد الجائحة وظهور أسلوب العمل الهجين، تنهض طبقة الموظفين الشباب لترفض أخلاقيات الرعيل القديم في مكان العمل، وهي على وعي تام بالتضخم وأزمة الغلاء المعيشي التي تحوم فوق رؤوسنا في أية حال. يوظف مستخدمو "تيك توك" في تعاملهم مع ظاهرة الاستقالة العظيمة، و"أداء الحد الأدنى من العمل" و"العمل وظائف عدة"، هذه العبارات الرائجة لانتقاد الهياكل الجامدة التي لا وجه لها للعمالة الحديثة. فلتنسوا الزمالة والتعاون، ما يريده موظفو المكاتب والعاملون الذين يرتدون ثياباً رياضية هو أن يكون عملهم ثميناً بالنسبة إليهم. طبعاً، أصبح "تيك توك"، المنصة التي تتقبل الفيديوهات المتدنية النوعية والعفوية التي يعبر فيها المستخدمون عما يجول في خاطرهم، المركز الرئيس لإزعاج المديرين.

"ولت أيام التصرفات ’المثالية‘ على وسائل التواصل الاجتماعي"، كما يقول المدرب المهني شو ديوان المسؤول عن حساب @workhap على تيك توك "ما يريده الناس هو أن يروا سلوكاً حقيقياً، يريدون من صناع المحتوى أن يظلوا على طبيعتهم". وبالفعل، يستخدم هذا المسؤول السابق عن التوظيف ومحترف شؤون الموارد البشرية تجاربه السابقة لمشاركة طرق سرية وسريعة يمكن تطبيقها في عالم الشركات، فيساعد المتقدمين المستقبليين إلى الوظائف في الحصول عليها ويساعد الموظفين في تفادي المشكلات مع رؤسائهم في العمل. وهو يعنون فيديوهاته بشكل يجذب القراء مثل "لا تشاركوا هذا أبداً مع الموارد البشرية" أو "الحقيقة بشأن المفاوضات على الراتب"، لكن ديوان يعطي نصائح حقيقية فيها نظرة داخلية قد يشعر كثيرون بالخوف من التعبير عنها.

إنما هذا ليس سوى غيض من فيض. هناك كثير من صانعي المحتوى الآخرين الذين يقدمون نصائح مخصصة لفئة معينة من الناس. يدير ستيفن آديوي، موظف الشركات السابق، حساب @corporatesteve على "تيك توك" إضافة إلى وكالة توظيف اسمها Beyond Education تركز على الأشخاص من الفئات التي لا تحصل على تمثيل كاف في قطاعي التمويل والتكنولوجيا. ويستخدم في حسابه فيديوهات قصيرة مدبلجة بشكل مضحك تتداخل فيها تعليقات جدية، توجه طالبي العمل السود إلى الفرص التي من بينها مثلاً "فترة تدريب تعزز المساواة". لكن مقاربته مزدوجة، فهو ينتقد التوظيف على أساس التنوع، باعتباره ممارسة من باب المجاملة التي يراد بها باطل. وهو يبدأ أحد الفيديوهات، بتصريح "يا قوم، إن ’التوظيف على أساس التنوع‘ ليس أمراً صحيحاً"، قبل أن يصحح ما قاله ويضيف "هذا جيد جداً". لا شك في أن موقفه محير. كما أن موقفه المترسخ في  فكر الشركات يظهر في فيديو محدد يستشهد فيه بدراسة أجرتها شركة ماكينزي في معرض طرحه حجة تدعم أهمية وجود فرق عمل متنوعة عرقياً في سبيل زيادة حجم الأرباح قبل الفائدة والضريبة.

ما الهدف الكبير إذاً؟ "هناك نقص في الشفافية حول ما يحدث في المؤسسات الصناعية ذات الشعبية، وطرق الدخول إليها"، كما يشرح. "في نهاية المطاف، يوفر ’تيك توك‘ المساحة للأفراد لكي يحصلوا على معلومات داخلية ثمينة وتجارب عن عالم الشركات". إنه أمر يستحق الثناء، كما هي أفكاره التي يجاهر بها حول المشكلات الداخلية للشركات-  مثل المشاركة في لقاءات يوم الخميس واحتساء الشراب من أجل الحصول على ترقية-  لكن رأيه بالإجمال ليس انتقادياً جداً. وبالفعل، فإن الدراسات المتعلقة بفوائد أسبوع العمل الممتد أربعة أيام فقط لا تقنع آديوي، وفي ما يعي تماماً وجود العنصرية الممنهجة في أماكن العمل، هو يعارض "لعب دور الضحية".

في المقابل، ما يريده بعض صانعي المحتوى على "تيك توك" هو قلب النظام رأساً على عقب ورفض المبدأ البروتستانتي بالاجتهاد في العمل بغض النظر عن النتيجة-  فما بالك بالتمييز المؤسسي. في أحد الفيديوهات التي انتشرت على نطاق واسع، تشارك غابرييل جادج (@gabrielle_judge)، "الفتاة والمديرة المعادية للعمل" بحسب تعبيرها الخاص، صورة عن محادثة على منتدى إلكتروني يعرض فيها أحد المستخدمين تجربته عندما كشف عن أمره وهو يستخدم برنامج "تحريك الفأرة" الذي يعطي الانطباع بأن الموظفين العاملين عن بعد ما يزالون يمارسون نشاطهم العادي على الإنترنت وهم متصلون بالشبكة فيما يمكن أن يكونوا في خضم السفر عبر العالم أو العمل في وظيفة أخرى. وتسأل متابعيها "ما رأيكم؟ هل يجب أن يطرد؟ وتذيل الفيديو بتعليق تتساءل فيه "هل مديره مستبد أم أنه هو المخطئ؟ #الطرد من وظائف التكنولوجيا، #شغل وظائف عدة #برمجة". وتقول جادج إن الهدف من الفيديو لم يكن التشجيع على هذا السلوك بل فتح نقاش حول الموضوع. "هل هناك زيادة في بعض الوظائف التي لا داعي فيها للعمل 40 ساعة أسبوعياً أو أن الأفراد تخلوا عن مسيراتهم المهنية؟" كما تقول. "وهذا مثال واحد على الطريقة التي أستخدم فيها الأفكار الدرامية لكي أشكك في الأمور التي يجب تغييرها في المستقبل".

يشكل المحتوى الذي تقدمه جادج مثالاً على ظاهرة كتب عنها خبير علم الأعراق البشرية الراحل، ديفيد غريبر، في كتابه الصادر في عام 2018، "وظائف بلا معنى" الذي قام على افتراض بأن وظائف كثيرة لا تحمل أية قيمة اجتماعية وحتى الأشخاص الذين يشغلون هذه الوظائف لا يمكنهم تبرير وجود مهنتهم. بالنسبة إلى غريبر، تلعب هذه الوظائف دوراً في وجود تخمة من الأعمال غير الضرورية التي تحول دون تحقق توقعات الخبير الاقتصادي جون ماينارد كينز بتحول أسبوع العمل إلى أسبوع من 15 ساعة فقط. وفيما من النادر أن يتبنى معظم صانعي المحتوى عن عالم الشركات على "تيك توك" آراء بهذه القوة، ليس من المستغرب أن تراهم يطرحون أشكالاً مخففة عنها، ويبرزون عيوب العمليات البيروقراطية التي تضيع الوقت وتصاحب كل الوظائف في الشركات. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يستخدم هنري نيلسون - كايس، أو @thatcorporatelawyer كما يعرف على "تيك توك"، فيديوهاته للسخرية من الممارسات التي عفا عنها الزمن. بدءاً بالطلبات التي لا معنى لها لـ"إجراء اتصال" في حين يمكن أن يكتفي المرء بكتابة بريد إلكتروني، إلى أداء المهمات الخارجية خلال ساعات العمل، لا تتعلق الفيديوهات التي يصنعها بالفائض في الوظائف المكتبية بقدر ما تتعلق بالتغييرات التي يمكن للشركات أن تطبقها. ويقول لي "خلافاً لعديد من التعليقات التي تردني عبر’تيك توك‘، أنا في الحقيقة محام أمتلك كل مؤهلات أداء وظيفتي وأنا أجتهد في عملي. أنا لا أتجول دائماً في المتاجر أو أتنزه عند الساعة الـ11 صباحاً. أعتقد بأن النقطة الأساسية تتعلق بما حدث من تغيير حقيقي في طريقة عملنا وتنظيمنا للوقت بحسب الأولويات ولا سيما في أعقاب الجائحة. ليس نموذج العمل من التاسعة صباحاً إلى السادسة مساء أفضل النماذج من حيث الفعالية بالنسبة إلى كثيرين".

تصديقاً لرأي نيلسون - كايس، يمكن أن تمر الوظائف المأجورة بفترات من الهدوء، حيث يمكن أن يسمح لكم مدير لطيف بالخروج باكراً، أو بفترات مشحونة بالعمل، يجب خلالها استغلال كل ثانية، فيما يجب التخلي عن أي دردشة مع الآخرين. ولو غيرنا ظروف العمل لتناسب هذا الوضع، هذا يستدعي ضبطها على قياس الشخص الذي يفضل أن يعمل بسرعة في أيام الأسبوع الأولى، والشخص الذي يفضل أن يعمل ببطء ويضيف إلى يومه التوقف لمعرفة أخبار الآخرين وتناول القهوة والكعك.

قد يصل الوضع الأخير إلى ذروته الجهنمية، كما يصور أحد الفيديوهات التي نشرتها آبي كلارك (@abiclarkecomedy) حيث  تعلق الشخصيتان جيل وترايسي في حلقة مفرغة من مجاملات المكتب، وتكرار عبارات "صباح الخير! أنا جيدة، وأنت؟" مرة تلو الأخرى، إلى ما لا نهاية. إنها مشاهد مضحكة لكنها تطرح فعلاً السؤال الوجودي عن عدد الساعات التي نقضيها في العمل الجاد، في مقابل عدد الساعات التي نقضيها في الاستماع إلى كارول من فريق التسويق، وهي تطلعنا على أصغر التفاصيل عن عطلة نهاية الأسبوع التي قضتها. قطاع خاص؟ فعال؟ ليس بالضرورة.

وهذا الأمر واضح. في أعقاب النكسة الاقتصادية - والوعود الفاشلة بأن العمل الشاق وارتياد الجامعة والصبر يؤتي أكله- يفضل شباب كثيرون أن ينتهوا من كل هذا الهراء، وهم يعون بأن تضحيات الطبقة الوسطى هي تضحيات فقط. يقول كونور بلايكلي الرئيس التنفييذ لشركة التسويق يوث لوجيك التي يقودها موظفون من جيل ما بعد الألفية "في هذه المرحلة، أصبح جهاز قياس الهراء جزءاً لا يتجزأ منا تقريباً. كلما واجه الشباب بيروقراطية مؤسسية لا داعي لها، سيستمرون بمشاركة سلوك المؤسسات السخيف هذا مع الآخرين ويفضحونه تلقائياً". 

قد يسميهم بعضهم "ضعفاء" لكن رغبتهم بأن يكون العمل مناسباً لهم مثيرة للإعجاب. تقول سارة بيمو، التي تجري أبحاث الدكتوراه في جامعة يورك في تورونتو إنها لاحظت وجود وعي استثنائي باستغلال العمالة وغطائها البيروقراطي في أوساط جيل الألفية وما بعدها. وتقول "قد يظهر كمزيج من التشاؤم والعبثية إزاء أساسيات العمل المؤسساتي اليومي. وهو يسمح لهؤلاء العاملين بتفكيك هيكليات السيطرة المؤسسية، بالتالي تحويلها إلى أمور تافهة بلا معنى".

لا شك في أن هذا الصراع مع ثقافة الشركات ليس الثورة التي تخيلها كارل ماركس، غير أنه ما يزال نوعاً من مقاومة العمال، التي توظف كل ما بين يديها من وسائل وتبذل ما بوسعها. وغالباً ما يكون مستخدمو "تيك توك" على دراية بأوجه القصور فيها، التي عليهم الانتباه لها. ويقول الباحث في درجة الدكتوراه في جامعة غولدسميث، أندرياس شيلفالد، إنه يدرك بأن هذا التوجه قد يشجع الموظفين على تطبيق النصائح من أجل التعامل مع موقع العمل، فيتحملون عن غير قصد المسؤولية، بدل أن يحثوا على إعادة التفكير جذرياً في الموضوع. ويضيف "لكن في الوقت ذاته، إن نظرتم إلى النقاشات الأعم، أعتقد بأنها ظاهرة مرتبطة بالطلب المتنامي على التغيير المؤسسي الممنهج لثقافة العمل". هكذا إذاً. لن تبث الثورة عبر شاشات التلفزة، بل عبر "تيك توك".