تنعم بغداد باستقرار نسبي بعد نزاعات مدمّرة استمرت لعقود، أتاحت أشغال تجديد في المدينة من طرقات معبّدة ونظم صرف صحي جديدة إلى فنادق فارهة ومطاعم، وهي مشاريع تسمح للسلطات أيضاً بالدفع ببرنامجها أمام الرأي العام.
في بغداد البالغ عدد سكانها تسعة ملايين نسمة، تكثر المشاريع الكبيرة لوصل الأحياء العشوائية مثلاً بشبكات الكهرباء والماء وترميم الطرقات والأرصفة وبناء جسور.
وقد جعل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من إعادة تأهيل البنية التحتية أولوية لحكومته.
وفي بلد تصدّر العناوين على مدى عقود جراء الانفجارات والحروب، أتاح الاستقرار النسبي المتواصل منذ خمس سنوات تقريباً وإعلان الانتصار على تنظيم الدولة الاسلامية، افتتاح مراكز تجارية ومقاه ومطاعم فاخرة.
على ضفاف نهر دجلة، يمكن لرواد مجمع "ألف ليلة وليلة" الاختيار بين 12 مطعماً، فضلاً عن سلسلة من المقاهي وصالات للاحتفالات ومتاجر وقاعة للعبة البولينغ. خلال عطلة نهاية الأسبوع، يتردد العشرات إلى المكان برفقة العائلة أو الأصدقاء لتناول الطعام أو تدخين النرجيلة وممارسة البولينغ.
وفتح المجمّع الذي بني في حديقة أحد قصور الرئيس العراقي السابق صدام حسين أبوابه أواخر العام 2022، على أرضٍ هي الآن بيد نقابة الصحافيين التي استأجرت الموقع. وأطلق المشروع "عدد من المستثمرين الشباب المختصين بالشأن السياحي"، وفق المدير التنفيذي للمشروع فلاح حسن.
ويرى فلاح أن "العراق أرض خصبة للاستثمار بشكل لا يمكن تخيله" لكنه في الوقت نفسه يشير إلى وجود "معوقات" مثل "الوضع الأمني والروتين الحكومي العقيم" حيث ينبغي المرور "بألف نافذة لتتمكن من أن تأخذ ورقة موافقة واحدة".
"مناخ الاستثمار"
اعتبر البنك الدولي في تقرير نشر أواخر تموز/يوليو أن "مناخ الاستثمار في العراق لا يزال ضعيفاً"، مشيراً خصوصاً إلى "غياب تشريعات مواتية للشركات، ومناخ أمني غير مستقرّ، وأوجه قصور إدارية وفساد ممنهج" في إشارة إلى الارتشاء.
وتسعى السلطات إلى تغيير ذلك الواقع. كما يعمل رئيس الوزراء الذي أعرب مراراً عن عزمه على مكافحة الفساد، كذلك على جذب المستثمرين الكبار لا سيما دول الخليج.
في أواخر آب/أغسطس، شارك في وضع حجر الأساس لفندق ريكسوس الفاخر ومجمّع سكني، وهو الاستثمار القطري الأوّل في العراق.
وقال السوداني حينها "بدءاً من رئيس الحكومة وانتهاءً بآخر موظف، سوف نكون مع المستثمر ومع الشراكة ومع القطاع الخاص الجاد في تنفيذ مشاريع الاستثمار في بغداد والمحافظات وإقليم كردستان".
وفي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً، أكّد السوداني "شخصنا آفة الفساد، وجعلنا محاربتها أولى أولوياتنا".
لكن ما الذي يقف خلف هذه "الطفرة" التنموية في بغداد؟ في مقال له نشر على موقع معهد "الدراسات الإقليمية والدولية"، التابع للجامعة الأمريكية في مدينة السليمانية في إقليم كردستان، يرى الباحث حيدر الشاكري أنه "في السنوات الأخيرة، فضّلت الطبقة السياسية العراقية وشركاؤها في مجال الأعمال، استثمار ثرواتهم في مشاريع محلية هي بمثابة ملجأ للأرباح التي اكتسبت بطرق غير شرعية".
ويشير الشاكري في هذا الإطار خصوصاً إلى "مجمعات سكنية فخمة ومراكز تجارية وجامعات خاصة".
لكن السلطات تعتمد سياسة تحديث البنى التحتية. وتبلغ قيمة الاستثمارات في موازنات السنوات 2023 حتى 2025، 37 مليار دولار سنوياً، ثلاثة أضعاف القيمة الفعلية للاستثمارات في العام 2022 وفق البنك الدولي.
وقد أتاحت الاحتياطات المالية الكبرى بالعملة الصعبة التي تفوق 100 مليار دولار والمكتسبة من أسعار النفط المرتفعة، إمكانية طرح تلك المبالغ في الموازنة.
"إلى متى؟"
وأنشأت الحكومة فريق الجهد الخدمي والهندسي، الذي يضمّ جهوداً وفرقاً من وزارات وشركات عامة ومهندسي الجيش والحشد الشعبي، مهمته إعادة تأهيل الأحياء العشوائية "المحرومة منذ أكثر من عشرين عاماً" من الخدمات وفق رئيس الجهد الخدمي في بغداد المهندس عبد الرزاق عبد محيسن.
تنكّب فرق الجهد الخدمي على العمل في الأزقة الترابية في حيّ الكوفة الواقع على أطراف العاصمة. تحفر جرارات الشوارع من أجل توصيل أنابيب جديدة، فيما تقوم شاحنة بنقل الحطام.
ويقول عبد محيسن الذي يشرف على الأعمال في حي الكوفة إن "هناك أكثر من 1093 عشوائية في محافظة بغداد اعدّت خطة لها على أن تكون الأعمال بشكل تدريجي".
وأضاف "هناك أكثر من 200 مليار دينار" مخصصة "لأعمال البنى التحتية من ضمنها الماء" والصرف الصحي وإعادة تأهيل الشوارع.
في أوساط السكان، يرحّب البعض بهذه التغييرات، لكن آخرين ما زالوا يشتكون من نواقص عدة في الخدمات تؤثر على حياتهم اليومية.
ويشعر أبو علي البهادلي وهو عامل يومي في مجال البناء بفرحة غامرة إزاء هذه التحسينات في حيّه.
ويقول: "مناطقنا كانت محرومة من الخدمات بشكل تام"، مضيفاً أنه "في السابق، كان الوضع مختلفاً، لا نستطيع أن نخرج إلى الشارع بسبب الوحول التي تسببها الأمطار".
ويضيف "نحن سعداء وهذا حلم كنا نحلم فيه، مجارينا كانت طافية، كنت أحلم بتعبيد الشارع ووصول الخدمات إلى منطقتنا".
إلا أن جاره أحمد راضي البالغ من العمر 45 عاماً، فلا ينظر إلى الأمور بالإيجابية نفسها ويشتكي من قلة الخدمات والماء والكهرباء.
ويقول راضي وهو موظف حكومي: "أعطني مسؤولاً يبقى بلا ماء ساعة واحدة. يريدون أن يعبّدوا الشارع قبل إنجاز الماء. لقد تعبنا".
ويتساءل الرجل "متى يكملون الرصيف؟ متى يقومون بوضع نظام تصريف للأمطار؟"، مضيفاً "تأتي من عملك متعباً، لا كهرباء ولا ماء، المجاري منتشرة، أريد أن أعرف إلى متى؟".