سيفها كان لك؟!

منذ 1 سنة 139

قدَّم الإسلام توجيهات تحكم سلوك المحاربين باسمه، وطرحت المسيحية مفهوم الحرب العادلة، لكن كل هذا كان إطاراً أخلاقياً ذاتياً، لم يكن إطاراً قانونياً يمكن الاحتكام إليه لدى جهة ثالثة. قبل قرن واحد من الآن، كان الحسم العسكري للنزاعات السياسية معترفاً به قانونياً، من دون استدراك. وعلى مدار التاريخ الإنساني لم تكن للطرف الأضعف قوانين حرب تضمن له حداً أدنى من الحقوق. القوانين والمواثيق التي نستشهد بها حالياً ونطالب العالم بالاسترشاد بها إنتاج حصري لزمننا المعاصر.

وهنا تبرز مشكلة الجماعات الإسلامية المسلحة التي تريد أن تتصرف مع العالم وفقاً لقوانين القرون الوسطى، بينما يتصرف العالم معها وفقاً للقوانين المعاصرة. جمهورها الواسع لديه نفس الأزمة؛ خليط من عواطف دينية وتاريخية وقبلية وعنصرية تحول بينه وبين رؤية هذا التناقض. لا يخِزُ إجرامٌ تقترفه الجماعة التي يناصرها ضميرَه، ولا ينتقص من ادعائه الاستعلاء الأخلاقي. هو أيضاً يمرر أفعال الجماعة من خلال عقل مقتنع تماماً بالأفكار القديمة، ويمرر أفعال الخصم من خلال عقل على اطلاع على بعض الأفكار المعاصرة. تلك مشكلة فكرية أولى تواجهنا حين نريد أن ندير نقاشاً سياسياً مع العالم.

المشكلة الثانية قصور فهمنا للغرض من مهنة السياسة، وهي مهنة معنية بإدارة مَواطِن ضعفك وقوتك، لتحقيق أفضل النتائج الممكنة لشعبك. الضعف في بعض الأحوال أقوى ورقة تلعب بها، والقوة أحياناً أكبر معوق يواجهك. الحق يخدمك إن أحسنتَ عرضه، ولا يفيدك إن افتقدتَ صنعة الحصول عليه. يحتاج هذا إلى مدير فني، إلى قيادة تضمن اتساق منظومة الفعل، وتتحكم في الخطاب، وتضبط سقف التوقعات، وتكتشف ثغرات المنافس، وتكون على دراية بالقواعد الحاكمة للعبة السياسة، وحدود ملعبها.

الأمور الغيبية لا تقع ضمن نطاق ملعب السياسة، ولا هي مشمولة في التوصيف الوظيفي للسياسيين. ليس من وظيفة السياسي أن يعدنا بالمطر، ولا أن يبشرنا بتحسن اقتصادنا إن صلينا وصُمنا، ولا أن يخوض بنا حروباً منصورة بمحبة الله لنا ومقتِه لخصومنا. كل هذه شروط لا يمكن قياسها أو التعويل عليها في توقيت بعينه. حتى إن كنت تؤمن بالمعجزات؛ فمن المؤكد أنك لا تدعي القدرة على اجتراحها وقتما شئت. الجماعات الإسلامية تعتقد أن كل ما عليها لكي ينصرها الله أن تضع لافتة باسمه فوق أفعالها، وتنظر باستعلاء إلى مَن يناقشها نقاشاً مادياً دنيوياً. نصرة الله لأهل «الحق» مفهوم فضفاض ينقلنا إلى المشكلة الفكرية الثالثة، والخطيرة، التي تحتاج إلى تفتُّح ذهني لاستيعابها، وإلى نفض تربوي لعلاجها.

الحق بألف ولام التعريف لا وجود له إلا في ذهنك. الطرف الآخر لديه ادعاء حق خاص به. يستلزم هذا أن تتعامل مع سردية الطرف الآخر بجدية، وهذه للأسف مهمة شاقة على مَن يعتقد أنه صاحب حق إلهي ملزم للجميع.

في الصراع بين الإرادات السياسية، تتناسب قوتك عكسياً مع احتياجك إلى إقناع الآخرين. وبالتالي فإن الطرف الأضعف يحتاج إلى رقابة العالم، بينما الطرف الأقوى يتمنى لو اختفى العالم من المعادلة. في الصراع مع إسرائيل يحتاج الفلسطينيون إلى العالم أكثر، ويحتاجون إلى القوانين المعاصرة والالتزام بها أكثر، ويحتاجون أكثر إلى فهم الفارق بين ما يعدّه العالم مقاومة وما يعدّه إرهاباً.

لا تأتي الميليشيا فقط بعمليات عسكرية مباغتة وخاطفة تشفي بعضاً من غليل جمهورها وتشعره بانتصار عابر، بل تخلق بهذه الانتصارات الصغيرة كوداً أخلاقياً بديلاً عن الكود النظامي. كود يحول التفكير الانتحاري إلى قاعدة لا استثناء، ويعدّ القانون عائقاً لا حامياً، ويمنح قرار استخدام السلاح فوقية أخلاقية على ما سواه، ليصير السلاح غرضاً في حد ذاته، يُسكت الكلامَ ليعلو صوت البندقية وحده، ويخون أي انتقاد لها. كما يحتقر أخلاق النظامية والتزامها بمصلحة المواطنين ومسؤولية القيادة وقياسها للعواقب. تلك الأخلاق التي تجعلها أحياناً تستسلم، وأحياناً تنسحب، لأن ذلك يجنُّب المواطنين مآسي أكبر. الكود الميليشياوي لا يُقَدر هذا النوع من نكران الذات، بل يحتقره ويعاير به. الكود الميليشياوي يضيق أفق النظرة الأخلاقية لدى المجتمع. الكود الميليشياوي هو المشكلة الرابعة من معوقات التفكير السياسي.

لكن الميليشيا ستظل في حاجة إلى خطاب لغوي يبرر مواقفها ويدافع عنها. وبما أنها تعدّ التفكير العقلاني انهزامياً، وبما أن أفعالها ترتكز على بطولة الصفعة الأولى لا على جدوى الاشتباك، فإن ما يناسبها من أساليب البلاغة هو الإنشاء لا الخبر، هو الكلمة الجميلة ذات الوقع والجرس، لا الكلمة الدقيقة في معادلة حسابية. إن احترتَ بين السلام والحرب فالجواب جاهز: «لا تصالح ولو أعطوك الذهب...». وإن انتقدتَ جماعة مسلحة تتحدث لغتك، لكنها غير منضبطة، وتضرك ولا تنفعك، يقولون لك: «هل تستوي يدٌ سيفها كان لك... بيدٍ سيفُها أثكلك؟!».

عبثاً تعيد النقاش إلى حيز الكلام الخبري. عبثاً تقول بحساب الورقة والقلم إن تلك اليد لم تكن لي، ولا كان سيفها لي. كان لدولة إقليمية، ربما. كان مع تنظيم دولي. ربما. لكنه لم يكن لي، ولا استشارني في قرار، ولا اهتم بتحفظي، ولا راعى ظروفي، ولا راعى ظروف مواطنيه. ولا اهتم بحمايتهم من رد الفعل.

التفكير الشعري أحد أسوأ معوقات التفكير السياسي لدينا. هو الغلاف السوليفان البديع لصندوق الهدايا المتفجرة. يبدو بالوزن والقافية حكيماً وقاطعاً، لكنه في الحقيقة منجنيق لهب يحرق حامله.