احتفظت وجبة العشاء بقيمتها العالية في المخيلة الإنسانية في جانبيها، الرسمي والشعبي. فظهرت في الثقافات المحلية والعالمية كسمة للترف أو وجبة فرعية مرتبطة بالجوع، في بعض الثقافات والمجتمعات. ودوَّنت السينما العربية والعالمية من خلال الأفلام الطويلة ومن خلال لوحات فنية وجداريات شهيرة، دور هذه الوجبة في تشكيل ثقافة الحوار، وتطور الإنسان حضارياً واجتماعاً، إذ حافظت الوجبة على مركزيتها ضمن وجبات الطعام الثلاث الرئيسة إلى جانب الفطور والغداء، على مر التاريخ البشري، على رغم مما شابها من تحذيرات صحية، لحقت بها حديثاً بسبب تطور العلوم وتقلبات الزمن وتغير نمط الحياة في الوقت الراهن.
في هوليوود
ونظرت هوليوود الحديثة إلى حكاية وجبة العشاء بوصفها وجبة الاحتفالات والمناسبات السعيدة والاستثنائية، التي تتجلى فيها بعض مشاعر الإنسان الحميمة والدافئة، إذ يتحدد خلال حوار موائد العشاء أحياناً، مصائر أمم وشعوب وحضارات بأكملها. وقدمت هوليوود أعمالاً توضح هذه الفكرة من منظورين رئيسين، الأول أجاد التعامل مع تراث طويل تمتعت به هذه الوجبة من دون بقية وجبات النهار، على مدى قرون من الزمن، لتنتج منها قصصاً تحمل طابع الدراما والجريمة والإثارة والتشويق كما في فيلم "عشاء" للمخرج أورين موفمان وبطولة ريتشارد غير. أما المنظور الثاني، فهو منظور أكثر حداثة، لكنه هزلي، يسخر بشدة من بعض جوانب البروتوكولات المتشددة أثناء تناول الطعام، كما في فيلم "عشاء للأغبياء" الذي صدر عام 2010 من إخراج جاي روتش وبطولة ستيف كاريل وبول رود.
في المخيلة الشعبية
احتفظت المخيلة الشعبية الغربية بمكانة وجبة العشاء بوصفها الوجبة المركزية على رغم من تغير الزمن والتحذيرات الصحية. واستمر التعبير عن قيمة تناول الطعام ليلاً بشكل رومانسي، وبشكل رمزي، من خلال تسميات حديثة عدة، أشهرها عشاء عاطفي أو عشاء العمل، إذ يدعو الأصدقاء والزملاء والشركاء بعضهم إلى مطاعم فاخرة، ذات إطلالات مميزة، ويكون الحضور بأزياء رسمية وضمن بروتوكولات معينة في كثير من الأحيان.
في السينما
في فيلم "العشاء" 2017 يلتقي على مأدبة العشاء مدرس التاريخ بول لوهمان (ستيف كوجان) وزوجته كلير (لورا ليني) وشقيق بول عضو الكونغرس ستان (ريتشارد جير) وزوجة كاتلين (ريبيكا هول)، وتتطور الأحداث التي بدأت خلال الوجبة الشاعرية لتصبح في غاية الشراسة وتصل إلى مرحلة الجريمة. في المقابل في فيلم "عشاء للأغبياء"، ينظم صاحب عمل عشاء شهرياً لاختيار مدير تنفيذي من أكثر المدعوين حماقة. بدورها نجحت المخيلة الأدبية العربية الشعبية إلى التعبير عن هذه القيمة الإنسانية، من خلال السينما المصرية، عبر مفهوم الجوع الذي يؤدي إلى تناول الطعام بنهم شديد في إطار الكوميديا المحضة، وقدمت من خلال هذا المفهوم المجرد، شخصية الإنسان السمين (ذكراً أو أنثى)، لينتج عنها بعض أكبر أسماء الكوميديا الذين ظهر بعضهم في فترة الأبيض والأسود بدءاً من عبدالفتاح القصري (1905-1964)، مروراً بجورج سيدهم وعلاء ولي الدين ويونس شلبي وآخرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عشاء بوكير
قبل العولمة كان التقاء الرؤساء والملوك حدثاً كبيراً، يعبر عنه من خلال مأدبات تستمر حتى ساعات الصباح الأولى. وكان من أشهر تلك المناسبات، مأدبة الملوك الخمسة في لندن سنة 1363. وكان أشهر من طبَّق فكرة العشاء الرسمي ملوك فرنسا خلال عصور النهضة، إذ أخذت الوجبة طابع الطبقية والسياسة، لتعبر عن مفهوم بدائي للطعام وهو تحديد الرتبة والنفوذ من خلال الجلوس على الطاولة. وبعد الثورة تلاشى المفهوم ليظهر بشكل رمزي زمن نابليون بونابرت. وفي فيلم "نابليون 2023" من بطولة خواكين فينيكس، وثق المخرج ريدلي سكوت واحدة من تلك المأدبات السياسية التي حضرها الإمبراطور بداية صعوده، ليدوِّن أحداثها عبر كتيب سياسي تحت عنوان "عشاء بوكير" الذي كتبه عام 1793، وهو عبارة عن حوار بين جندي/نابليون، وأربعة تجار، لإقناعهم بالعدول عن التمرد والاحتكام للدستور الفرنسي في فترة الحرب الأهلية في فرنسا. الذي ترقى بعده نابليون ليصبح قائداً كبيراً في سلاح المدفعية مدفوعاً بمسيرته المهنية وطموحه السياسي.
لوحة العشاء الأخير
لم تقتصر حكاية وجبة العشاء في الخيال الإنساني على جانبها الشعبي والسياسي، بل ذهبت إلى آفاق بعيدة فنياً، لتظهر لوحة لينوارد دافينشي "العشاء الأخير"، ضمن قالب تعبيري جديد، وثَّق من خلاله الرسام الهندسي المتمرد قصة العشاء الأخير للسيد المسيح من منظور غير ديني. وانتهج في لوحته طريقة الرسم المباشر بالألوان على الجدار، لينتج جداريته/روايته الخاصة حول تلك المناسبة. ولوحة ليوناردو دافينشي 1498 "العشاء الأخير" عبَّرت عن دور هذا الطقس البشري الحضاري في صياغة وتشكيل أغلب المفاهيم الاجتماعية والدينية والسياسية المعاصرة.