زند الحقيقة الغائب

منذ 10 أشهر 147

الدولة الحديثة كيان له أعضاء وقلب وحواس، هي كائن معنوي له مجمع قوة. عمودها الفقري هو الحقيقة التي يغذيها القانون. كل دولة تعيش كالجسد على مقدّرات تبدعها عقول شعبها وقيادتها، لتتحرك في إيقاع منظم يضبطه القانون.

ما يحدث في الدولة من تطورات تتعلق بمصير الوطن، لا بد أن تكون تحت عين القانون، ولا أحد فوق ذلك مهما علت رتبته. كلمة التحقيق، تعني تعقب الحقيقة والبحث عنها بقوة القانون. لأن الحقيقة هي الشريان الذي يضخ الحياة في قلب الكيان الوطني. الدولة الحديثة تفقد صفتها إذا غابت عنها الحقيقة، ووهن فيها القانون.

الولايات المتحدة الأميركية، تشهد الآن سجالاً انتخابياً ساخناً بين الرئيس جو بايدن، والرئيس السابق دونالد ترمب. كلاهما تلتف حوله خيوط القانون بسبب تهم موجهة له. الرئيس ترمب تلاحقه عشرات القضايا، قد تمنعه من خوض الانتخابات، بل قد تقوده إلى السجن، أما الرئيس بايدن، فربما يطاله غبار التهم الموجهة إلى ابنه هانتر. الولايات المتحدة، هي القوة الأقوى في العالم، بما تملكه من أموال وسلاح وقدرات علمية وغيرها، لكن الحبل الفاعل الذي يربط كل تلك القوات الضاربة، هو القانون الذي يتساوى أمامه جميع المواطنين، من رئيس الجمهورية إلى أبسط مواطن. الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، كان من الرؤساء الأقوياء والبارزين في تاريخ أميركا، إلا أنه أُرغم على التخلي عن منصبه، بقوة القانون عندما تأكد تورطه في قضية ووتر غيت. رئيس أميركي آخر وهو بيل كلنتون، اضطر إلى أن يقف منحنياً أمام القانون والكونغرس، وأن يعترف بما وُجّه إليه في الفضيحة التي عرفت، بقضية الفتاة مونيكا لونسكي.

في إيطاليا، استطاع قاض واحد أن يهز النظام السياسي بأكمله في البلاد، في الحملة القانونية على الفساد، والتي عُرفت بالأيدي النظيفة. زالت أحزاب تاريخية كبيرة من خريطة الحياة السياسية، واختفت شخصيات سياسية كبيرة، وزعامات قادت البلاد لسنوات، واضطر رئيس الوزراء الأسبق بتينو كراكسي، إلى الهروب إلى تونس، حيث قضى بقية عمره بمنطقة الحمامات إلى أن مات بها. القانون له يد أقوى من كل السياسيين والمليونيرات. رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، سيلفيو برلسكوني، وهو من كبار الأثرياء في إيطاليا، صدر حكم عليه بالسجن، وبما أن عمره قد تجاوز السبعين، فقد أُمر بالقيام بعمل عام في الشارع.

في إسرائيل دخل رئيس الجمهورية السابق موشي كاتساف السجن بتهمة الاغتصاب، وكذلك رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت بتهمة الرشوة.

في فرنسا رفعت قضايا ضد رئيس الجمهورية السابق نيكولاي ساركوزي، اقتيد إلى المحكمة بتهمة الحصول على أموال من ليبيا، واليوم يتحرك بسوار مراقبة في يده. هناك عشرات الوزراء، ورجال أعمال كبار نالتهم ضربات القانون في دول مختلفة.

هناك أحداث كبيرة ومصيرية، تشهدها بعض الدول، تتجاوز مسؤولية فرد أو أكثر مثل الحروب، تُشكل لها لجان تحقيق تضم قضاة وخبراء، الهدف معرفة خلفيات ما حدث، والمحركات التي قادت إلى النتائج بكل ما فيها. الحقيقة هي المبتغى الوطني من أجل معرفة السلبيات وتفادي الوقوع فيها مرة أخرى.

في التاريخ العربي حدثت نكبات ونكسات وكبوات، لكن للأسف لم تشكل لها لجان تحقيق محايدة لها القدرة والخبرة، فتكررت الضربات والهزائم.

الحرب الأولى التي خاضها العرب في القرن العشرين، كانت حرب فلسطين سنة 1948. كتب عنها صحافيون ومؤرخون وأكاديميون، لكن لم تشكّل لها لجنان تحقيق مؤهلة ومحايدة، للقيام بجمع المعلومات التفصيلية حول مجريات تلك الحرب التي غيرت الكثير في البلاد العربية ودراستها وتحليلها، والخروج بنتائج عاملة. اختزل بعض الصحافيين أسباب هزيمة الجيوش العربية في تلك الحرب، في ما أطلقوا عليه، الأسلحة الفاسدة على الرغم من أن الضباط الذين شاركوا في تلك الحرب، نفوا ذلك نفياً قاطعاً. والضباط الذين قادوا ثورة يوليو (تموز) المصرية، وبعضهم شارك في حرب فلسطين، لم يتحدثوا عن الأسلحة الفاسدة، وذكروا أسباباً أخرى لتلك الهزيمة النكبة.

حرب السويس التي خاضتها مصر ضد العدوان الثلاثي سنة 1956، لم تُشكّل لها لجنة تحقيق مؤهلة، لتفكيك مسارها من البداية إلى النهاية بعمل موثق، والشيء نفسه ينطبق على حربي يونيو (حزيران)، وأكتوبر (تشرين الأول).

بعد حصول دول عربية على الاستقلال، شهدت المنطقة محاولات وحدوية بين دول عربية، وكانت أولها الوحدة المصرية - السورية، التي انهارت بعد سنوات ثلاث، وتلتها محاولات أخرى وإن اختلفت أطرافها وشكلها، لكنها باءت جميعها بالفشل الذريع. لم تتم دراسة تلك التجارب من طرف لجان تحقيق محايدة ومؤهلة. هناك كتابات صحافية، وحتى بعض المؤلفات الأكاديمية، لكن لم تكن هناك لجان يمكن أن نطلق عليها فرق أو لجان تحقيق من الخبراء والعلماء المختصين. صدرت مذكرات لبعض الشخصيات التي شهدت تلك التجارب وشاركت فيها، لكن ذلك أمر آخر.

أوروبا انتقلت من عصور الحروب الطويلة، إلى وضع الاتحاد الكونفدرالي، بعد تفكير ودراسات قادها رجال فكر وسياسية، واعتصروا الحقائق الموضوعية من جبال التجارب التاريخية العنيفة. كانت الخلاصة، الوحدة أو الحرب. كانت البداية مشروع الحديد والصلب والفحم بين إيطاليا وفرنسا، الذي توسع ليشمل دولاً أخرى تحت مسمى السوق الأوروبية المشتركة، الذي قادت إلى الاتحاد الأوروبي. فشل الوحدات العربية، لم يحرك عقول الساسة والخبراء لاجتراح صيغ تعاون عملية وموضوعية بين الدول العربية. بقي العراك بين الدول الذي قاد إلى أكثر من صدام عسكري، وحروب أهلية.

في غياب التحقيق تغيب الحقيقة. وتضيع الأوطان والشعوب بين المآسي والمهازل. محطة عبثية في مسار العلاقات العربية. فبعد توقيع مصر على اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، شكّلت كل من العراق وسوريا والجزائر وليبيا، ما عُرف بجبهة الصمود والتصدي للاتفاقية المصرية - الإسرائيلية. بعد أشهر قليلة دخلت العراق العضو في جبهة الصمود والتصدي، في حرب مع إيران، وانحاز عضوان من الصمود والتصدي وهما سوريا وليبيا، إلى إيران في حربها مع شريكيهما العراق في الصمود والتصدي. تصدياً للعراق، بدلاً من التصدي لكامب ديفيد.

الى أي مدى هجرتنا الحقائق، وتهنا بين الشعر والأناشيد والشعارات. متي يفعل زند الحقيقة فعله في العقول؟