تدور استراتيجية روسيا للفوز في الحرب في أوكرانيا حول اتباع سياسة النفس الطويل والصمود أكثر من الغرب. إلا أن التساؤل هنا: كيف ينوي الرئيس فلاديمير بوتين تحقيق ذلك؟ من جانبهم، عبّر مسؤولون أميركيون عن قناعتهم بأن بوتين ينوي محاولة إنهاء الدعم الأميركي والأوروبي لأوكرانيا، عن طريق استخدام وكالات التجسس الروسية لدعم حملات دعائية تدعم الأحزاب السياسية الموالية لروسيا، وتأجيج نظريات المؤامرة باستخدام تكنولوجيات جديدة.
وترمي حملة التضليل التي تقودها روسيا إلى زيادة الدعم للمرشحين الذين يعارضون المساعدات المقدمة لأوكرانيا، سعياً، نهاية الأمر، إلى وقف المساعدة العسكرية الدولية لأوكرانيا. ويساور روسيا الإحباط بسبب استمرار وحدة الصف بدرجة كبيرة بين الولايات المتحدة وأوروبا تجاه الدعم العسكري والاقتصادي المستمر لأوكرانيا، حسب تصريحات مسؤولين أميركيين.
وبفضل هذه المساعدات العسكرية، ظلت أوكرانيا في المعركة، بينما أصبحت أهداف روسيا الأصلية في احتلال العاصمة كييف ومدينة أوديسا بعيدة المنال، بل وعطلت كذلك الهدف الأكثر تواضعاً المتمثل في السيطرة على منطقة دونباس كلها، شرق أوكرانيا.
ووفق اعتقاد مسؤولين أميركيين، فإن بوتين يرى أن بمقدوره التأثير على السياسات الأميركية على نحو يلحق الضعف بمستوى دعم أوكرانيا، ما قد يعينه على استعادة تفوقه على الساحة العسكرية. ويبدو أن بوتين يراقب عن قرب المناقشات السياسية الأميركية بشأن مساعدة أوكرانيا. يذكر أن المعارضة الجمهورية لتقديم مزيد من الأموال لأوكرانيا أجبرت قادة الكونغرس على إقرار مشروع قانون مؤقت بخصوص الإنفاق، لم يتضمن مساعدات إضافية لأوكرانيا.
ثمة احتمال كذلك أن تحاول موسكو دعم المرشحين الموالين لها داخل أوروبا؛ حيث ترى فرصاً جيدة في النتائج الأخيرة. على سبيل المثال، فاز مرشح موالٍ لروسيا في انتخابات البرلمان السلوفاكي، الأحد. وبجانب الانتخابات الوطنية، يمكن أن تسعى روسيا للتأثير على الانتخابات البرلمانية الأوروبية العام المقبل، تبعاً لما ذكره المسؤولون.
في الواقع، لطالما استغلت روسيا وكالاتها الاستخباراتية للتأثير على السياسات الديمقراطية بجميع أنحاء العالم. وخلصت تقييمات صادرة عن الاستخبارات الأميركية عامي 2017 و2021 إلى أن روسيا حاولت التأثير على الانتخابات لصالح دونالد ترمب. وعام 2016، اخترقت روسيا حسابات البريد الإلكتروني للجنة الوطنية الديمقراطية، وسربت رسائل إلكترونية تضر بحملة هيلاري كلينتون. عام 2020، سعت روسيا إلى نشر معلومات تشوه صورة جو بايدن، لكن الكثير من الجمهوريين في الكونغرس يرون أن هدف روسيا كان تأجيج المشاحنات السياسية، وليس دعم ترمب.
فيما يخص الانتخابات الرئاسية لعام 2024، تعتقد وكالات الاستخبارات الأميركية أن مصالح بوتين المرتبطة بها أكبر، فقد أمد بايدن أوكرانيا بمساعدات تقدر بمليارات الدولارات، وتعهد باستمرار واشنطن وحلفائها في دعم كييف «طالما اقتضت الحاجة». أما ترمب، الذي يتصدر بفارق كبير في استطلاعات الرأي المرتبطة بترشيحات الحزب الجمهوري، فقد صرّح بأن دعم أوكرانيا ليس مصلحة أميركية حيوية.
وطبقاً لمسؤولين الأميركيين، تنفذ روسيا باستمرار عمليات معلوماتية تستهدف الإساءة لصورة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وسياسات الولايات المتحدة، ومن المحتمل أن تعزز جهودها خلال الأشهر المقبلة. وقد تحدث المسؤولون الأميركيون شريطة عدم ذكر أسمائهم، حتى يتمكنوا من مناقشة معلومات استخباراتية حساسة.
أما الهدف النهائي لروسيا، فيكمن في المساعدة في تقويض المرشحين الذين يدعمون أوكرانيا، وتغيير سياسة الولايات المتحدة. إلا أن بعض المسؤولين الأميركيين يشككون في قدرة روسيا على تنفيذ ذلك.
ومع ذلك، فإنه حتى إذا لم تتمكن موسكو من التأثير على النتائج النهائية للانتخابات، فإن الروس ربما يظنون أن بإمكانهم إثارة جدل كافٍ حول مسألة مساعدة أوكرانيا حتى يصعب على الكونغرس في المستقبل تمرير دعم إضافي، بحسب المسؤولين الأميركيين.
في هذا الصدد، شرحت بيث سانر، المسؤولة الاستخباراتية السابقة، أن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الجديدة الأخرى ستغير كيفية تنفيذ روسيا حملات التأثير. وثمة احتمال كذلك أن تنفذ روسيا ما يمكن وصفه بحملات لغسل التأثير، من خلال إرسال رسائل للجمهور الأميركي عبر حلفاء داخل مؤسسات مستقلة ظاهرياً، تبعاً لما خلص إليه تحليل رفعت عنه السرية حديثاً.
من ناحية أخرى، من السهل المبالغة في قدرة روسيا على التأثير على المشهد السياسي الأميركي. وبالفعل، أبدى بعض المسؤولين الأميركيين وبعض من مسؤولي إدارة شبكات التواصل الاجتماعي، شكوكاً إزاء مدى فاعلية عمليات نشر الرسائل الكاذبة والتأثير التي نفذتها موسكو عام 2016، مقارنة بعمليات الاختراق والتسريب التي استهدفت رسائل البريد الإلكتروني لكلينتون.
ومنذ ذلك الحين، تبدّل المشهد الإعلامي بشكل جذري. واليوم، أصبح المستهلكون الأميركيون والأوروبيون أكثر تشككاً إزاء ما يقابلونه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وجرى طرد التلفزيون الحكومي الروسي، مصدر روايات الكرملين، من موقع «يوتيوب».
كما عززت «ميتا»، الشركة الأم لـ«فيسبوك»، من جهود البحث عن الأخبار الكاذبة وتفنيدها عبر منصاتها.
ومع ذلك، نجد أنه مقابل كل تطور يصعب الحياة على الجهود الروسية عبر الإنترنت، ثمة توجهات أخرى تدفع في الاتجاه المعاكس. على سبيل المثال، فكك موقع «إكس» (تويتر سابقاً)، الفرق التي تولت مسؤولية تتبع محاولات التدخل في الانتخابات. كما أن أكثر المنصات نفوذاً في أوساط الشباب اليوم «تيك توك»، المملوكة لشركة صينية. وقد عمدت الصين من جانبها إلى تعزيز عمليات التأثير الخاصة بها، على غرار عمليات موسكو.
من جهتها، حذرت وكالات الاستخبارات الأميركية من أن العديد من الدول تسعى للتأثير على المشهد السياسي الأميركي. عام 2020، كشفت وكالات الاستخبارات عن مخطط إيراني للتأثير على التصويت في فلوريدا. كما نفذت كوبا عمليات استخباراتية منخفضة المستوى، وكان لدى فنزويلا النية للتأثير على التصويت، لكنها افتقرت إلى القدرات اللازمة لذلك.
ومع ذلك، تعد روسيا أفضل من أي دولة أخرى من حيث دمج وسائل الإعلام الحكومية والأدوات الخاصة لنشر الرسائل الكاذبة وعمليات استخباراتية لشن هجمات في الفضاء الرقمي، حسبما أفاد مسؤولون أميركيون.
وأشار مسؤولون أميركيون إلى أن التصعيد الروسي قد يتضمن دعماً مالياً إضافياً للأحزاب السياسية الموالية لموسكو داخل أوروبا، أو حتى عمليات سرية بالقارة تستهدف إضعاف الدعم للحرب في أوكرانيا، إذا فشلت العمليات التأثيرية الحالية في تحقيق نتائج ملموسة.
وعليه، نبه المسؤولون الأميركيون إلى أنه من الخطأ تقليل تقدير قدرة روسيا على تنفيذ عمليات التأثير. مثلاً، لا تزال أصداء الرسائل المضللة الروسية التي تدعي وجود مختبرات للأسلحة البيولوجية الأميركية في أوكرانيا، تتردد في جميع أنحاء العالم.
زد على ذلك استغلال روسيا هذه الاتهامات لتبرير غزو أوكرانيا، ومطالباتها المتكررة الأمم المتحدة لفتح تحقيق في ادعاءاتها الكاذبة، في الوقت الذي سارعت مجموعات يمينية متطرفة إلى التقاط هذه الاتهامات الروسية الكاذبة والمبالغة فيها.
وفي ظل عالم منقسم جراء السياسات المتطرفة ونظريات المؤامرة والتضليل، ثبت أن نظريات المؤامرة والمعلومات المضللة أكثر صموداً من أي وقت مضى.
* خدمة «نيويورك تايمز»