انقضى الآن عام كامل على بدء الاجتياح الروسي لأوكرانيا. عام على الحرب التي أطلق عليها الرئيس بوتين وصف «العملية الخاصة»، محدداً أهدافها بـ«نزع السلاح من أوكرانيا واجتثاث النازية منها»، وقدم للروس والعالم سردية تمحورت حول اعتزامه تصحيح أخطاء تاريخية ارتكبها سلفاه من قادة الاتحاد السوفياتي السابق لينين وستالين... لكنها تحولت إلى حرب ضروس جذبت إليها الولايات المتحدة والأطلسي، وباتت عبارة استخدام السلاح النووي تتردد بشكلٍ غير مسبوق. بداية ما عزز القناعة بـ«العملية الخاصة» تمثل في اندفاعة الجيوش الروسية في أكثر من اتجاه ونحو العاصمة كييف. لكن رغم سقوط ما يزيد على 20 في المائة من أوكرانيا بقبضة الغزاة، فإن المشهد تبدل سريعاً، ليتبين استحالة تكرار جورجيا 2008 أو القرم 2014. وسريعاً تجاوزت هذه الحرب الزعم بأنها شأن إقليمي يدور بين بلدين متجاورين، فامتد تأثيرها الفوري إلى كل أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا نتيجة التداعيات الاقتصادية الكبيرة الناجمة عنها... من توقف إمدادات الغاز والنفط من روسيا إلى توقف إمدادات غذائية رئيسية أبرزها القمح، فصادرات روسيا وأوكرانيا من القمح تناهز 25 في المائة من السوق العالمية. واليوم بعد مرور 12 شهراً على هذه الحرب التي زهقت حياة مئات الألوف من البلدين، وتسببت بنزوح أكثر من 15 مليون أوكراني نصفهم إلى خارج الحدود، كما أصابت البنى التحتية الأوكرانية بدمار كارثي شبيه بدمار الحرب العالمية الثانية مع تدمير مدن بأكملها إلى ألوف البلدات، وبالمقابل تواجه روسيا عقوبات أميركية - أوروبية عاصفة، عزلتها عن العالم، ومن شأنها أن «تكرسح» الاقتصاد الروسي بعدما بلغت حد تحديد سقف لأسعار منتجات الطاقة الروسية من نفط وغاز ومشتقاتهما. قبل أن تطوي هذه الحرب عامها الأول خطفت إطلالة الرئيس الأميركي بايدن الاهتمام من كييف، في زيارة ستشكل نقطة تحولٍ في سياسة المضي بالدعم المكثف لأوكرانيا. لقد كانت لافتة المواقف التي أعلنها بايدن من كييف: «بعد عام تصمد كييف. أوكرانيا تصمد. الديمقراطية تصمد. الأميركيون يقفون معكم والعالم يقف معكم». الزيارة التي أبقيت سرية إلا عن الروس، إذ كشف مستشار الأمن القومي الأميركي سوليفان أنه تم إبلاغ الروس بالزيارة «قبل ساعات على مغادرة الرئيس» و«بسبب الطبيعة الحساسة لتلك الاتصالات لن أتحدث عن ردهم أو على طبيعة رسالتنا»... فإن أنصار موسكو في شرق أوكرانيا وصفوها بأنها تأكيد من هو «الرئيس في أوكرانيا»، وأن «الغرض منها إقناع بقية الأوكرانيين بالتضحية من أجل مصالح أميركا»، لكن الرد على الزيارة أتى من جانب الرئيس السابق ترمب الذي قال: «إن دعم واشنطن العسكري الإضافي لكييف سيطيل أمد النزاع ويؤخر التسوية». تبعاً للمعطيات ما من مؤشرات جدية لتسوية ما، أو قرب انتهاء هذا الصراع، الذي شبهه الرئيس الروسي في سياق حملات التعبئة بأنه شبيه بـ«الحرب الوطنية العظمى» (التسمية الروسية للحرب العالمية الثانية)، وتقول موسكو إنها تحولت إلى حرب روسية على الأراضي الأوكرانية ضد «الناتو»، الولايات المتحدة والدول الأوروبية، التي تمد كييف بإمكانات عسكرية هائلة وتدريب على الأسلحة الحديثة، ووصل الإمداد في الآونة الأخيرة إلى الدبابات الأكثر تطوراً والصواريخ، والبحث جار في مسألة إمداد الجيش الأوكراني بالطائرات المقاتلة، بعدما اعتبر الأطلسي والغرب عموماً أن أي انتصار روسي سيعني ضربة شديدة لأوروبا وكل النظام العالمي الذي نشأ غداة الحرب العالمية الثانية، وتعزز مع سقوط جدار برلين. بالتأكيد سيمر الوقت الضروري قبل قراءة كل تداعيات هذه الحرب الظالمة، التي كان بالإمكان تفاديها. لكن الثابت أنها أيقظت أوروبا من أوهام سادت كقناعات إثر سقوط جدار برلين، وعززت تأكيدات وتوافقات قديمة في عام 1945 بانتهاء الحروب الكبرى.
استمر هذا المنحى رغم ما شهده العالم طيلة أكثر من 50 سنة من حروب أهلية وعامة وتدخلات، لأنها ترافقت على الدوام مع تعاون دولي عالج الكثير من النزاعات وعمل على حصر أضرارها... إلى أن كان غزو العراق في عام 2003، الذي سيبقى إحدى أخطر الكوارث التي شجعت آخرين على خوض حروب شبيهة، كان الاتحاد الروسي أبرزها في حربه على جورجيا واقتطاع مناطق منها كما اقتطاع القرم بعد فرضه حالات انفصالية في شرق أوكرانيا إلى الحرب الحالية. وفي السياق، يبدو نظام الملالي في طهران الطرف الأكثر تدخلاً والأوقح في زعزعة استقرار بلدان شرق المتوسط واليمن، وتهديد العالم العربي وأبرز شرايين التجارة الدولية. لم يكن العالم قد نهض بعد من جائحة «كوفيد 19» التي ما زالت مستمرة بوتائر قليلة، حتى بدأ الغزو الروسي ليتبين أن كل البشرية منخرطة بهذه الحرب. التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الارتفاع الحاد بأسعار المحروقات والتراجع الحاد بالإمداد الغذائي من قمح وزيوت إلى الأسمدة أصابت كل بلدان العالم، وباتت دول الجنوب على حافة مجاعة زاحفة.
الدول الأوروبية والدول الثرية عموماً دخلت مرحلة انكماش وتضخم وتراجعت معدلات النمو، ولن تتأخر النتائج عن الظهور، وها هي البلدان الأوروبية كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، ونسبياً ألمانيا، تشهد انفجار الغضب نتيجة ازدياد الاحتقان الاجتماعي. وسيتضاعف هذا المنحى لأن الأولويات ستتبدل وستذهب أوروبا إلى تخصيص أموال طائلة لإعادة بناء الجيوش والتسلح النوعي، خصوصاً أن الحرب على أوكرانيا استهلكت في عام نحو نصف المخزونات العسكرية في العالم. كان الرئيس ماكرون قد توجه إلى الفرنسيين بالنصح لأن يودعوا عقود الرفاه والأمر بات حقيقة عالمية، والخطير أيضاً أنه سيترافق مع تلاشي دعم بلدان الجنوب الفقيرة، والأرجح ستتدنى المساعدات الغذائية، أما الاستثمارات فستنعدم. لكن سيبقى بين الأمور الأكثر خطورة بروز ملامح سياسات العزلة والانطواء، التي تدل عليها نتائج الانتخابات في أكثر من بلد أوروبي، وقد حملت إلى السلطة أو تقدمت فيها، قوى قومية متطرفة ضد الهجرة وضد الآخر، وبالتأكيد لا شيء إيجابياً في برامجها تجاه الدول الفقيرة. وبين النتائج الأخطر التي ترافقت مع جفاف كبير يضرب أوروبا منذ العام الماضي، تراجع معالجة المسألة البيئية حيث تكمن كارثة كبرى تحدق بالبشرية. تعطل الانتقال إلى طاقة نظيفة، ومع توقف الغاز الروسي عادت البلدان الأوروبية إلى الفحم الحجري الشديد التلويث، وكذلك إلى تزخيم إنتاج المحطات النووية! لم ينتصر بوتين بإعادة كتابة التاريخ وفق سرديته ولم ينهزم زيلينسكي، لكن الثمن الروسي الأوكراني مرعب، ومخيف ما سيلحق بكل البشرية من مآسٍ، والأكيد أنها ستستمر لكن أحداً لا يعرف الشكل الذي سترسو عليه، وماذا سيكون الشكل الجديد للنظام العالمي مع الصعود الصيني - الهندي على المسرح الدولي.