تتعدد طرق احتفالات اللاعبين داخل ملاعب كرة القدم، إذ بمجرد دخول الجماهير إليها تبدأ أجساد الناس تنسج سيرة متخيلة وساحرة مع فضاءات الملعب. أجساد تتهاوى في الفراغ، محدثة فرحة لا يمكن للمرء وصفها، إلا من عاش إيقاعها على أرض الملاعب. وتتنوع هذه الاحتفالات باختلاف المونديالات، إذ عادة ما تبرز قوة بعضها عن الآخر، من خلال الأغاني واللوحات والأنشطة الفنية التي ترافق مقابلات المونديال وتتم دوماً بطابع احتفالي مدهش، يكون عبارة عن رسالة سلم وسلام تشارك فيها احتفالاتها كل دول العالم.
وإن كانت السياسة تطل دوماً كالشبح بوجهها فتحاول استغلال هذا الحدث الرياضي الاستثنائي في العالم، من أجل توجيه الرأي العام وإثارة بعض المشكلات والقضايا التي لم تستطع فرضها قبل المونديال. وتلعب هذه الاحتفالات دوراً بارزاً في المونديال لأنها تسهم بشكل هستيري في استقطاب الجماهير وتلفت الانتباه للبلد المنظم وأنشطته اليومية، فتصبح هذه الاحتفالات أداة فعالة لاستقطاب السياح الأجانب والترويج للمآثر التاريخية والأعمال الفنية والصناعات التقليدية ودورها في التعريف بالتراث المحلي، باعتباره قاطرة للتنمية السياحية.
انفعالات
يشعر المشاهد دوماً أن جسده أصبح مسلوباً أو أسيراً للآخر (اللاعب) الذي يتحكم فيه فرحه وحزنه وانفعالاته، خصوصاً لحظة تسجيل الأهداف، بعد أن يهم اللاعبون بأداء رقصات مجنونة أدركنا مع مرور الوقت أن العالم لا ينساها، بل إنها تدخل التاريخ من بابه الواسع، وتصبح بمثابة أيقونة بصرية تسلب قلوب الناس ويعاد مشاهدتها دوماً على مدار سنوات على شكل فيديوهات.
بل إن كثيراً من الفنانين يلتقطون هذه اللحظات- الرقصات، فيعيدون رسمها داخل لوحات أو أعمال غرافيتية اعترافاً بكونها علامة مميزة في تاريخ مونديالات كرة القدم، كما هي الحال مع رقصة اللاعب الكاميروني الشهير روجيه ميلا 1952 الذي جرى الاحتفال به قبل أيام قليلة بمونديال قطر 2022 بوسام خاص من قبل "الاتحاد الدولي لكرة القدم" (الفيفا) بوصفه أكبر لاعب يسجل في تاريخ كأس العالم، وذلك كعربون محبة واعترافاً لما قدمه هذا الرجل للمنتخب الكاميروني.
يقول الباحث المغربي سعيد بنكراد "كرة القدم لعبة تتميز بقدرتها على إثارة طاقة انفاعلية تشل المتفرج، وتلقي به في حالة جذب رهيبة لا يخرج منها إلا مع انتهاء المقابلة فالصعود والهبوط والصرخة المدوية والصمت الرهيب ثم الوقوف والجلوس والتلويح باليد، وما يعقب ذلك من شتائم تنهال على اللاعبين والمدرب أو على الحكم وحده، كلها حالات لا تفسرها سوى شساعة الفضاء والحركة اللعبية التي تشبه أوركسترا تعزف أنغاماً بمقامات متنوعة تمزج بين الميلودرامي والحزين والسريع والمتواتر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد حظي هذا التكريم بتفاعل كبير داخل الأوساط الرياضية، لا سيما ممن يتذكرون رقصة ميلا أمام خصمه في مونديال إيطاليا عام 1990 في مشهد كروي ساحر لن ينسى. واعتبرت الـ"فيفا" أن هذا التكريم، يعود أساساً إلى كونه من أكثر اللاعبين الكبار في السن الذين سجلوا أكبر عدد من الأهداف في مقابلات تاريخية، جعلت رقصته الفولكلورية الشهيرة "الماكوسا" متوجاً لا من قبل المؤسسات الرياضية الكاميرونية فقط، بل من قبل عشاق المنتخب الكاميروني ومجمل جماهير العالم، التي نشرت تلك الصورة، وهو في ذلك الركن القصي من الملعب محتفلاً بهدفه مع عشاق وجماهير المونديال.
يقول روجيه ميلا "هذه الصورة انتشرت في جميع أنحاء العالم" لهذا في نظره "تلعب كرة القدم دوراً حيوياً، وربما أكثر أهمية من السياسة. أحياناً يجد الأشخاص الذين يكرهون بعضهم البعض أنفسهم متحدين من خلال كرة القدم".
رقصة تخلق أزمة
ليست كل الرقصات تسرق قلوب جماهير كرة القدم، وتدفعهم إلى نسج علاقة معها قوامها الحب والمتعة، كون بعضها غير "مستساغة" في نظر بعض الجماهير، فهي تغيظهم وتدفعهم إلى توجيه نقد لاذع تجاه بعض اللاعبين.
فقد برزت هذه المشكلة في الأشهر القليلة الماضية خلال الدوري الإسباني، بعد أن أدى نجم ريال مدريد البرازيلي الأصل فينيسيوس رقصة اعتبرتها بعض الجماهير أنها تعاديهم وتستخف من فريقهم. واعتبر بعض المحللين أن رقصة هذا اللاعب خلقت أزمة حقيقية داخل الدوري الإسباني. وحذر كوكي لاعب أتلتيكو مدريد اللاعب من الرقص أمام الجماهير الإسبانية.
وارتفعت حدة هذا الجدل أكثر بعد أن أدلى بيدرو برافو رئيس جمعية وكلاء أعمال اللاعبين بإسبانيا في تصريح صحافي موجه للاعب البرازيلي بقوله "في إسبانيا عليك احترام المنافسين والتوقف عن التصرف مثل القرد". وهو ما أثار فتنة داخل الوسط الكروي، حيث اعتبر عدد من اللاعبين أن هذا الرأي يحمل في طياته كثيراً من العنصرية، ما دام يوجد لاعبون إسبان يحتفلون دوماً من خلال الرقص بعد تسجيل أهداف في شباك الخصم. وقد حظي اللاعب فينيسيوس بكثير من الدعم من فريقه وباقي اللاعبين الآخرين، خصوصاً من أفراد المنتخب البرازيلي المعروف منذ سنوات طويلة بأداء رقصات ساحرة مستلهمة من التراث الموسيقي البرازيلي.
ويعتبر اللاعبون أن هذه الرقصات، ما هي إلا مجرد فرحة وطريقة في التعبير والاحتفال بالنسبة لهم في البرازيل، وتعد أفضل طريقة للابتهاج والتواصل مع عشاق كرة القدم في العالم، لأنها تتيح لهم طاقة كبرى للاستمرار في اللعب بفرح.
والحقيقة أن هذا المنع لم يتعرض إليه النجم البرازيلي الشاب، بل تعرض له قبل أشهر كبار اللاعبين مثل ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو ونيمار. وعلى خلفية هذا الجدل الدي أحدثه فينيسيوس برقصته المشروعة، تدخل كثير من الصحافيين والمحللين الرياضيين معتبرين أن مثل هذه التصريحات ستفرق عشاق كرة القدم وستنزع عنها طابعها الاحتفالي، إذا ما تم التوقف عن الرقص أثناء تسجيل الأهداف في مرمى الآخر.
رقصات لا تنسى
يسجل المتابع لأطوار المونديالات الأخيرة، غياب رقصات اللاعبين أثناء تسجيل أهدافهم، فالسبب لا تتحكم فيه المؤسسات، وإنما طرق احتفال اللاعبين، ما دام أن كثيراً منهم يفضلون الاحتفال مع جماهيرهم وعشاقهم على مواقع التواصل الاجتماعي عن طريق فيديوهات وصور خاصة من داخل الملعب أو غرفة تغيير الملاعب أو كراسي الاحتياط أو حتى من داخل منازلهم، بما يرتبط بها من أمور خاصة يشرعون في إظهارها للناس.
لكن إذا عدنا إلى تاريخ المونديالات سنجد أن منتخبات قليلة مثل البرازيل والكاميرون ونيجيريا والكوت ديفوار وأنغولا وغيرها من الدول الأفريقية التي استطاعت خلق متعة بصرية ساحرة لعشاق المونديال.
ففي بطولة الأمم الأفريقية تعتمد منتخباتها على تقديم استقبال حار للجماهير عن طريق الغناء والرقص والضرب على الطبول والدفوف والمزامير بينما الكل يضرب بأقدامهم على الأرض ويصفقون ويهتفون عالياً بأصواتهم، وهم يرتدون ثياباً مزركشة بألوان أوطانهم. فهذا الشكل التعبيري الخاص بالغناء والرقص، لا نعثر عليه في المونديالات الأخيرة، إما لغياب الرغبة في ذلك أو لعدم قدرة مونديالات مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا على محاكاة الطريقة الساحرة التي ترقص بها الجماهير ويقلدها بعض اللاعبين على أرضية الملعب.
يقول الزعيم سنغور "الرقص في أفريقيا هو بداية كل شيء، وما على الكلام سوى اتباع الرقصات، ليتحول الحديث إلى أنغام وألحان ورقصات، فالرقص والغناء والأقنعة هي تراث القارة الأفريقية".
أفريقيا... الرقص ملح الجسد
تعد دول أفريقيا بمختلف جغرافيتها أكثر البلدان التي تتوفر على تراث موسيقي شعبي مميز ضارب في الحضارة الكونية. فكلما نظم حدث فني هناك تدهشنا بلدانه بما تتوفر عليه من طاقات فنية مذهلة، سواء داخل الغناء أو الموسيقي أو السينما أو الرياضة أو الرقص، ما يفسر مدى تشبع اللاعبين الأفارقة بثقافتهم الفنية التي يحرصون دوماً بطريقة واعية على إعادة محاكاتها على أرضية الملعب. فأغلب رقصات كرة القدم ليس جديدة، وإنما تمثل نموذجاً حياً لتاريخهم الفني وذاكرتهم الجمالية، التي يحرصون دوماً على استعادتها داخل العرس الرياضي وأمام كل أنظار العالم.
فالرقص بالنسبة لهم لحظة تسجيل الأهداف، لا ينبع من قناعات شخصية أو متعة ذاتية تجعل اللاعب يرنو إلى المتع والإثارة، بقدر ما تحمل رقصاتهم دلالات معينة وإن كان اللاعب غير مكترث أحياناً بدلالاتها السياسية، لكنه تشبع بها في طفولته وداخل موروثه الموسيقي، من ثم، يعيد استخدامها كنوع من الاحتفال والفرح والابتهاج على الرقعة الخضراء.
تقول مريم عادل "الرقص في المجتمعات الأفريقية لا يعتبر نوعاً من الإثارة والترفيه والمتعة كما هو شائع في المجتمعات الحديثة، إنما يعبر عن ضرورة واحتجاج أساسي فهو جزء رئيس من الطقوس الدينية والاجتماعية، فهناك رقصات لكل المناسبات حتى إن الكاتبة الزنجية الأميركية بيرل بريمياس صنفت الرقصات الأفريقية المختلفة في مجموعات تمثل في تتابعها دورة الحياة الكاملة من بدايتها إلى ناهيتها، فهناك رقصة للإخصاب ورقصة الميلاد والبلوغ والخطبة والزواج والموت، وهي المراحل التي يمر بها كل كائن حي".
يعرف منتخب الكوت ديفوار برقصته الشهيرة الـ"كوبيه ديكاليه" التي تستوحي ملامحها الجمالية من موسيقى تعرف بنفس الاسم. وهي نمط أحد أبرز الأنماط الشعبية الإيفوارية التي تؤدى في الشارع وتعرفها كل المجتمعات الأفريقية، بحكم ما تحمله من دلالات سياسية واجتماعية لها تأثر خاص الاجتماع الإيفواري. وتعتبر هذه الموسيقى مصدر إلهام متواصل للأجيال الجديدة، التي تطرق بابها من أجل تقديم رسائل اجتماعية هدفها السلم، لهذا يعتبرها بعض الفنانين في كونها حركة اجتماعية تتجاوز كونها مجرد موسيقى خاصة برقصة ترفيهية يؤديه الناس في الشوارع والمقاهي والحانات واللاعبون على أرض الملعب.
ذلك إنها تمنح للجسد طاقة كبيرة للترفيه وفي الوقت نفسه مختبراً فنياً للتعبير عن مآزق الوطن وتصدعاته. يقول الموسيقي الإيفواري باتريك سومبو "هدف موسيقى كوبيه ديكاليه ليس بالضرورة الغناء، بل تميزها بالأجواء الحماسية والرسائل التي تحتويها وتمررها هذه الموسيقى ولايت تتحدث مثلاً عن السلام أو عن تاريخ البلاد، وهذا ما يرفع وعي الشباب في شأن قضايا المجتمع".
وتعد رقصة "الماكوسا" الخاصة بالمنتخب الكاميروني أشهر رقصات المونديال، فبسبب اللاعب روجيه ميلا غدا العالم يعرف هذه الرقصة، لكن المفاجأة أن الرقصة جاءت في ظرف استثنائي جعل سيرته ترتبط بهذه الرقصة الساحرة. فبعد اعتزاله اللعب الدولي عام 1988 وعيشه ببعض مناطق المحيط الهندي واختياره اللعب مع فريق هواة هناك. تلقى روجيه ميلا عام 1994 اتصالاً هاتفياً من الرئيس الكاميروني بول بيا الذي اقترح عليه العودة إلى اللعب مع المنتخب في مونديال إيطاليا. وعلى الرغم من كبر سنه خطف روجيه ميلا أنظار الجماهير العالمية بتسجيله أكبر عدد من الأهداف في ذلك المونديال.