رفيق السوربون

منذ 7 ساعة 15

بوصول القاضي نوّاف سلام إلى رئاسة الحكومة اللبنانية، تذهب حركة التاريخ خطوة أخرى في اتجاه المشروع اللبناني، على حساب المشروع الإقليمي في لبنان في صيغته الإيرانية، وهي آخر صيغه. وهي مرةً أخرى، علامةُ اهتمام غربي وعربي بقيامة الدولة اللبنانية من ركامها، ما يلتقي مع تأييد شعبي لبناني عارم في الداخل وفي المهاجر. فمع الانتخابات الرئاسية والتسمية الحكومية، ارتفعت راية الأمل والرجاء من جديد فوق «بلاد الأرز».

كان لا بدّ من الانتظار طويلاً قبل أن يلج شخص من «بيئتنا» بوابة السراي الحكومي. هو رفيقنا في جامعة السوربون في باريس، نوّاف سلام، في زمن كانت السوربون متألقة بوجوه ثقافية وعلمية عزّ نظيرها. كان هناك جاك بيرك «الشيخ»، عميد الدراسات المجتمعية العربية، وكان مكسيم رودنسون، الاختصاصي الكبير في العالم الإسلامي. وكان دومينيك شوفالييه، المؤرّخ الاجتماعي البارز، المتخصص في مجتمع جبل لبنان في القرن التاسع عشر، الذي كانت تربطه بنوّاف وبحلقة من طلبة الدكتوراه اللبنانيين علاقة مميّزة. وكان، من أساتذتنا، بعض أهم علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (علم الحضارات المقارن) في أوروبا، جورج بالاندييه، ولوي - فينسان توماس، وروبير كريسويل، وبول ميرسييه. كنت تجد في المقاهي القريبة، على طاولة مجاورة، كبار المفكرين والفلاسفة الفرنسيين، مثل رولان بارت وميشال فوكو، كما كنت تجد فرنسوا ميتران. وكان يكفي أن تجتاز بضعة أمتار من شارع سان جاك، حتى تجد نفسك في الـ«كولليج دو فرانس»، مستمعاً إلى محاضرة كلود ليفي - ستروس، كبير أنثروبولوجيي القرن العشرين. وكانت لقاءاتنا المسائية في مقهى على نهر السين، مع أنسي الحاج، رئيس تحرير مجلة «النهار العربي والدولي» آنذاك، في زمن هجرة الصحافة اللبنانية إلى باريس، بعد أن ضاقت الحريات زمن الوصاية الأسدية. ومثلما نرحّب بوصول نوّاف سلام إلى سدة رئاسة الحكومة، لا بد أن العديد من ساكني أروقة السوربون في حينه، ممن انتقلوا إلى حياة الروح، مثل فارس ساسين، وملحم شاوول، وجبور الدويهي، وسواهم، يرحّبون ويفرحون به أيضاً.

أمّا بعد، فإنها لفرصة ذهبية للبنان الخارج متعثّراً من ركامه، أن يحظى بما تجمّع لدى نوّاف سلام، على مدى نحو نصف قرن، من اختصاصات علمية رفيعة، في السوربون وسواها من أرقى معاهد العالم، وما توافر لديه من تجارب وخبرات قيادية في أعلى المؤسسات الدولية، بنزاهة واستقامة، ليضعها في خدمة بلاده المنهكة من معاناتها خلال ثلث قرن.

وبروز نجم نوّاف سلام هو أيضاً انتصار لروحيّة انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 الشعبية، وردّ اعتبار لها في وجه قامعيها من «صنّاع الخراب»، من جماعة الطبقة السياسية والمالية والإدارية الفاسدة، ومن جماعة «القمصان السود». ووقوف «نواب التغيير» المنتمين إلى تلك الانتفاضة إلى جانب القاضي سلام، وحركتهم الدؤوبة لتجميع الكتل والأصوات حوله وتشجيع الانسحابات لصالحه، متخطين خلافاتهم وتعدّد توجهاتهم، إنما تثبت أن رابطاً فعلياً وثيقاً يجمع بينهم، لا بدّ لهم من وعيه وتفعيله في الزمن الجديد. لقد أكّدت التطورات اللبنانية الأخيرة ما كنا ندركه بوضوح من أنه، على الرغم من تفكّك تلك الانتفاضة، وتلاشي حضورها الكثيف في الشوارع والساحات، وإصابة معظم جماهيرها باليأس، فإن الروحية التي بثتها في أرجاء لبنان باقية حية، ويمكن أن تفعل فعلها في المنعطفات المهمة الآتية.

مع ذلك، يصعب حقاً، إن لم يكن يستحيل، توحيد الحركات التغييرية الكثيرة، المنبثقة من انتفاضة 17 أكتوبر، في مسار استراتيجي واحد. فثمة بلبلة عارمة بصفوفها، وداخل كل منها، في فهم المسألة اللبنانية، وفي تصوّر النظام البديل لما هو قائم. يصعب تماماً تخطي هذه البعثرة، لأنها لا تعبّر في العمق عن تباينات فردية بقدر ما تنبثق من تباينات جماعية، مرتبطة بطبيعة تركيب المجتمع اللبناني. فهذا المجتمع، مثله مثل سائر مجتمعات المشرق العربي، لم يستطع الانتقال من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد المواطنين، بعد قرن كامل من زوال السلطنة العثمانية، وإن كانت «الصيغة اللبنانية» هي الأكثر توارناً وتفاهماً في هذا المجال. والتباين بين حركات التغيير ناتج بنسبة كبيرة، بصورة واعية أو لا واعية، عن التباين في موروثها الجماعي، وعن التباين في رؤية جماعاتهم المختلفة لذاتها وتاريخها.

لكن تستطيع الحركات التغييرية فعل الكثير على المستويين المنظور والأبعد، لكونها موحّدة حول مسائل بالغة الأهمية؛ كمكافحة الفساد والمحاسبة وإصلاح المؤسسات والتحديث وغيرها. ويجب أن تنطلق مما يوحّدها للإسهام الفعال في النهوض اللبناني الذي بدأ. إنه واجبها الوطني التاريخي.