كانت الرحلة المصرية الأولى مؤكدة إلى بلاد بونت العجيبة -التي نعلم أنها تمت بالفعل ليس فقط من خلال المصادر المكتوبة وإنما أيضاً من خلال المناظر المصورة على الآثار المصرية التي كشفت عنها أعمال الحفائر الحديثة- هي رحلة الملك ساحورع، أحد أهم ملوك الدولة القديمة من عصر بناة الأهرامات، وثاني ملوك الأسرة الخامسة (2491 - 2477) قبل الميلاد، أي منذ أكثر من 4400 عام مضى. وتعدُّ مناظر ساحورع عن رحلة بونت من أهم المناظر المعروفة لدى علماء المصريات، بل إنها أقدم مناظر مصورة عن حملة تجارية إلى بلاد بونت، كشف عنها الدكتور طارق العوضي خلال حفائره حول الطريق الصاعد لهرم الملك ساحورع في منطقة أبو صير، التي تبعُد بضعة كيلومترات عن أهرامات الجيزة الشهيرة، وذلك فيما بين عامي 2002 و2006 م.
يصور المنظر الأول لحظة وصول السفن التجارية الكبيرة إلى الميناء المصري قادمة من بونت، وعلى متنها مجموعة من أهل بونت من رجال ونساء وأطفال، ومعهم قردة البابون والقردة الخضراء، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من أندر أشجار البخور والمر في العالم، التي أطلق عليها الفراعنة اسم أشجار الـ«عنت، أو العنتيو». ويبدو أن بعثة الملك ساحورع أحضرت تلك الأشجار حية لكي تُزرع للمرة الأولى في الأراضي المصرية، وتحديداً في حديقة قصر الملك ساحورع المُسمى «جمال ساحورع». يصور المنظر التالي وصول الأشجار النادرة إلى حديقة القصر بعناية فائقة، وغرسها في أماكنها. وعلى متن السفن التجارية نرى أفراد بعثة الملك وألقابهم مكتوبة، ومنهم من حمل لقب «المترجم»، أي أن الحملة كان معها مَن يعرف لغة أهل بونت، ولا نزال لا نعلم هل كان هذا المترجم مصرياً أم أنه كان متمصراً، بمعنى أن يكون أصلاً من بلاد بونت لكنه جاء إلى مصر منذ زمن، ومكث بها، وأصبح مصرياً.
ويبدو أن وصول وإعادة زراعة تلك الأشجار كان حدثاً تاريخياً مهماً، لدرجة أن الملك والأسرة الملكية المكونة من أم الملك وزوجته حضرا هذا الحدث ومعهما كبار موظفي الدولة! وفي منظر هو الأندر على الإطلاق في الحضارة المصرية القديمة نرى الملك ساحورع بنفسه ممسكاً بفأس صغيرة، ويقوم بالنقر على لحاء الأشجار لكي يساعد في خروج المر منه الذي بمجرد تعرضه للهواء يتحول إلى الحالة الصلبة على لحاء الأشجار.
يلي ذلك منظر آخر هو الوحيد في الآثار المصرية، يحكي لنا قصة إحضار أشجار البخور والمر من بلاد بونت. ويصور الملك وهو جالس على عرش عظيم وقد وضعت أمامه شجرة من تلك الأشجار النادرة، التي أحضرتها بعثته التجارية إلى بونت، ويمد الملك يده لقطف المر من أفرع الشجرة. ويقول النص الكتابي الذي يعلو المنظر إن الملك قام بإحضار هذه الأشجار من بلاد بونت لكي تُزرع في حديقة قصره، حتى يعطي هذا المر إلى أمه الملكة نفرحتب إس، التي نراها تجلس أمام الملك على الأرض وإلى جانبها زوجة الملك ثم أبناؤه الذكور، يتقدمهم ابنه الأكبر الذي جلس من بعده على عرش مصر، الملك نفر إير كا رع.
تُشير كل الدراسات التي تمت إلى أن الأشجار التي أحضرها الملك ساحورع من بلاد بونت قد انقرضت منذ زمن بعيد، وللأسف لم يعد لها وجود اليوم. هذه الأشجار وما كانت تنتجه من بخور ومر كانت بالنسبة للمصري القديم أغلى من الذهب والفضة. وإلى يومنا هذا توجد أشجار للمر، ثمن الغرام مما تنتجه أغلى من الذهب.