«رؤية 2030» وتأسيس خطاب الاعتدال الديني

منذ 1 سنة 201

من ضبط الفتيا وحصرها على المؤسسة الرسمية، إلى تضمين الحرب على التطرف والإرهاب معالجة مسألة المحتوى العنفي، واعتبار أن لحظة الاستهداف تبدأ بكلمة وتغريدة وفتوى، وصولاً إلى تسمية الأشياء بمسمياتها في أول التصريحات لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في حواراته المبكرة مع بزوغ الرؤية، نشهد اليوم تحولات كبرى في مسألة مأسسة المجال الديني، وانبعاث الهوية، والاعتزاز والفخر بخدمة الحرمين الشريفين، وفق منظومة متكاملة جذرها الاعتدال الديني والوسطية.
اختيار التوقيت آنذاك كان مهماً في أول جلسة حوارية من منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار»، ومن قلب الرياض أكد ولي العهد أنه سيقود مملكة معتدلة ومتحررة من الأفكار المتشددة، تستجيب لتطلعات مجتمع سعودي شاب، وتلبي طموحات مئات المستثمرين، وآنذاك استرجع مهندس الرؤية جذور الأزمة مسمياً الأشياء بمسمياتها، وواصفاً «الأفكار المدمرة» بأنها نتيجة صراعات ما بعد قيام الثورة الإيرانية 1979، وما تلاها من ولادة «الإسلام السياسي» المتطرف.
وقال للجميع: «لم نكن بالشكل هذا في السابق». وهو ما حدا آنذاك بكبريات شركات الاستثمار والمعلقين السياسيين إلى تلقي تلك الرسالة، فلا يمكن للتطرف أن يعوق «رؤية 2030»، أو المستقبل، وحينها علق ستيفان بوتر المالك لإحدى كبريات شركات الاستثمارات الأميركية بقوله: «التصريحات تظهر شجاعة الأمير ورؤيته، وتوجه رسالة قوية ليس إلى السعوديين فقط، بل إلى العالم كله، بأن المملكة تستعد للتغيير».
لكن التغيير الحقيقي كان بعد إطلاق النسخ الأولى للرؤية، وما تلاها من حوارات ونقاشات، حول إدماج المسألة الدينية فيها بوصفها من أهم مداميك الهوية السعودية، كما أن خدمة الحرمين الشريفين، التي نشاهد اليوم وصول عدد الزوار وخدماتهم إلى مستوى غير مسبوق كماً ونوعاً، باتت جزءاً من مستهدفات الرؤية الأساسية، التي نصت على أن أهم أهدافها في هذا السياق: «إتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من المسلمين لأداء فريضتي الحج والعمرة على أكمل وجه، والعمل على إثراء وتعميق تجربتهم، من خلال تهيئة الحرمين الشريفين، وتحقيق رسالة الإسلام العالمية، وتهيئة المواقع السياحية والثقافية، وإتاحة أفضل الخدمات».
الجذور الراسخة للمجتمع السعودي والتاريخ الممتد والاعتزاز بقيمه الإسلامية والعربية، وتحويلها إلى رساميل ثقافية ضخمة كانت أحد أهم تجليات «رؤية 2030» في سياق المفاهيم الفكرية الضامنة للتجانس المجتمعي، جنباً إلى المواطنة والتموضع حول الإنسان السعودي ورفاهيته، ونقرأ بوضوح في نص الرؤية: «لقد أكرمنا الله بالكثير من الموارد الطبيعية والفرص الواعدة، لكنّ ثروتنا الحقيقية تكمن في أبنائنا وفي مجتمعنا. ونحن نعتزّ بما يميّز شعبنا: دين الإسلام الحنيف، ووحدتنا الوطنية المتينة. ونحن على ثقة بأننا سنحقق التميّز في المستقبل بعون الله، ونواصل تسخير طاقاتنا وإمكاناتنا في خدمة ضيوف الرحمن على أكمل وجه، كما نعتزّ بالهوية الوطنية العريقة لبلادنا.
وللتاريخ الذي يجب أن نسجله باعتزاز ونحن نسترجع مدونة الرؤية في بداياتها، فإن استراتيجية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في تدشين الحرب على مثلث استهداف الاستقرار، وطرحها في وقت مبكر مع بدايات الرؤية لضمان نجاحها، هي استراتيجية تصحيحية مشابهة لما قام به الملك المؤسس عبد العزيز، بعد انحرافات، للمفارقة، كانت متصلة بالتطرف ومحاولة التغول ضد منطق الدولة، كما أن الظروف التي ولدت فيها «رؤية 2030» تؤكد أننا نعيش السعودية الجديدة في طور التحديث الجديد... عصر ما بعد النفط والرفاهية الاقتصادية القائم على الاستثمار والانفتاح على العالم.
وكانت اللحظة الفارقة هي تدشين العودة إلى ما قبل لحظة الاختطاف، ما وصفه ولي العهد في حواره الشهير «عائدون للإسلام المعتدل»، موضحاً: «نحن نرجع إلى تعاليم الإسلام الحقيقية، التي عاش عليها النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون، حيث كانت مجتمعاتهم منفتحة ومسالمة ... راجعون إلى الجذور، إلى ما هو حقيقي، ما قبل أن يلجأ المتطرفون إلى اختطافه وتحريفه حسب مصالحهم».
العارفون بالتاريخ السعودي الحديث منذ لحظة التكوين يدركون بجلاء أن حجم استثمار التنظيمات المتطرفة في السعودية كان مبكراً، وأدى إلى انشقاقات داخلية جرى علاجها على المستوى الأمني من معركة السبلة الفاصلة، إلى حادثة جهيمان، ثم إفرازات حرب الخليج، وبروز الإسلام السياسي، ولاحقاً تضخم أدوار «القاعدة» وأخواتها، إلا أن مرحلة الحرب الشاملة لم تكتمل إلا بلحظة الرؤية، وإعلان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن القطيعة الشاملة، ثم دمج مسألة الاعتدال ومشاريع الهوية في الرؤية، وهو ما أفرز لنا هذه الحيوية والنقاش والمشاريع والمبادرات، فيما يخص الاستفادة من تراثنا المتجذر والضارب في أعماق التاريخ.
الوعي المجتمعي الذي يشهده المجتمع السعودي تجاه أولوية الأمن والاستقرار ومحاربة التطرف، وكشف مؤامرات الدول والأنظمة وجيوش الإعلام الموجه تجاه بلادهم، يبعث على التفاؤل، ويجب ألا يرتهن للمبادرات الفردية أو التعليقات العابرة المكلومة، بل لمزيد من الاستثمار في وعي الأجيال الجديدة التي تدافع عن مستقبلها وصانعيه.
درس التاريخ المتجدد هو أن أي دولة قوية لا يمكن لها أن تقف عند حدود التفكير في نهضتها الداخلية دون إعادة موضعة ذاتها في الداخل والخارج، فيما يخص مسألة الهوية، وبشكل مستقل وقوي، وهو ما جرى بالضبط في سياق تأسيس مفهوم الهوية الوطنية المستمدة من الإسلام، وربطها بكل برامج ومستهدفات الرؤية، وكان هذا بدايات توجه جديد لقطع الطريق على كل المزايدين، أو العالقين في سياق تاريخي، كان استثناءً مرهوناً بحالة اختطاف آيديولوجي أو لحظة تاريخية مفارقة... وللحديث بقية.