رأس المال الاجتماعي

منذ 1 سنة 141

استعرت عنوان هذه الكتابة من المفكر الأميركي المعروف فرنسيس فوكوياما، وهو مساهمته في الكتاب المعنون «الثقافات وقيم التقدم» الذي حرره صمويل هنتنغتون ولورنس هاريزون. ويدور حول العلاقة الجدلية بين الثقافة والاقتصاد.

من المسلمات الشائعة في نظرية التحديث (وكذا في نظرية التنمية الكلاسيكية) أن الحراك الاقتصادي يؤدي – قطعاً - إلى تحولات ثقافية. أقول إنها مسلّمة شائعة؛ لأنني أقبلها من جهة، وأتحفظ على تفاصيلها من جهة أخرى. وقد شرحت هذا بقدر من التفصيل في دراسة سابقة. لكن هذا التحفظ لا يقلل أبداً من قيمة الحجج التي بنيت عليها تلك النظرية.

على أن هذا ليس موضوعنا اليوم. فغرضي هو الإشارة إلى الاتجاه المعاكس، أي تفصيح السؤال المهم: هل يمكن للثقافة أن تغير الاقتصاد، كما أن الاقتصاد يغير الثقافة؟

حسن.

لماذا نعدّ هذا السؤال مهماً؟

من البديهيات أن الأمم تبجل ثقافاتها، وتعدّها جزءاً اساسياً من عناصر تمايزها وافتخارها على الأمم الأخرى. لو قرأت أياً من أعمال المفكر الهندي أمارتيا سن، فقد تلاحظ أنه يعدّ الثقافة الهندية موطن الحكمة في تاريخ العالم. ويعدّ العرب أنفسهم أعلى الأمم كعباً، ولغتهم أوسع اللغات وأغناها. وهكذا يفعل المنتمون إلى سائر الثقافات.

لكن هذه الثقافة التي نفخر بها، قد تكون هي بالذات معيقة للتقدم أو مثبطة، أو تكون - على العكس من ذلك - محركاً للتقدم، إذا عززت حس المغامرة والاكتشاف والمسؤولية والتعاون.

وقد تحدث الكثير من الكتاب عن هذا الموضوع. ونشير مثلاً إلى مقدمة ابن خلدون الذي كتب عن العرب والأقوام التي عرف بها أو سمع عنها. لكن أبرز من طرح هذا الموضوع للتحليل العلمي، هو - على حد علمي - ماكس فيبر في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية». قدم فيبر مقاربة تجريبية - تفسيرية، تقارن بين الحراك الاقتصادي في مجتمعين، حيث توصل إلى أن العقيدة البروتستانتية، ولا سيما في نسختها التي تنسب للراهب الإصلاحي جون كالفن، وفرت منظومة مؤثرة من القيم والمعايير المحفزة للنشاط الاقتصادي الإبداعي، في مقابل الكاثوليكية التي مالت لاحتقار العمل الدنيوي، وتمجيد العمل الذي يعيد الإنسان لحياته في العالم الآخر، بعد أن يموت.

واجهت طروحات فيبر معارضات شديدة، لا سيما بسبب ما قيل عن انطلاقها من الإيمان بالمركزية الأوروبية. لكنها - رغم ذلك - شكلت بداية قوية لدراسة العلاقة بين قوة الاقتصاد في بلد ما وبين تكوين العقل الجمعي لسكانه.

- حسن... ماذا عنا؟

- هل نستطيع الجزم بأن الثقافة السائدة في مجتمعنا محفزة للتقدم أو العكس؟

أعتقد أن هذا من نوع الأسئلة الخاطئة التي ربما تفتح الباب أمام نقاشات غير مفيدة. ذلك أن كل ثقافة تحوي عناصر من هذا النوع، وعناصر مضادة. وإذا قلت - مثلاً - إن الثقافة الفلانية مثبطة أو معيقة، فربما تبعد الأنظار عن الأجزاء الإيجابية فيها، وتستثير شعوراً دفاعياً أو تبريرياً بين أتباعها، بدل النقاش الواقعي الذي يستهدف تحليل المشكلة وكشف أطرافها.

هنا نأتي إلى أخينا فوكوياما الذي اهتم بتلك الأجزاء فحسب، وهو ما أطلق عليه «رأس المال الاجتماعي» وهو مجموع القيم والمفاهيم والمعايير التي تشكل ثوابت في الثقافة العامة لبلد ما، أي نواظم ومحددات ما أسميناه «العقل الجمعي». هذه ثوابت يشترك فيها أهل البلد كافة، وتمثل أساساً للتفاهم والتشارك في ما بينهم، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار، ومن هنا فهي تخلق نوعاً من الفعل الجمعي المنسجم، الذي يمكّن النظام الاجتماعي من العمل بكفاءة اكبر.

كل واحدة من القيم والمعايير والمفاهيم المؤثرة في تكوين الكتلة الاقتصادية، أو التعاون في الأعمال، تشكل موضوعاً للنقاش، وتحديد دورها، سلبياً كان أم إيجابياً، هو الذي يعيننا على تحديد موقع ثقافتنا العامة، ضمن جبهة التقدم أو العكس. ولنا عودة للموضوع في قادم الأيام.