حين يتردد على المسامع العثور على كشف أثري يتبادر إلى الذهن على الدوام التحف الثمينة والكنوز التي تقدر بمليارات الدولارات، لكن مهلاً هناك ما لا يقل أهمية عن ذلك، إذ ثمة كنوز من نوع آخر تتمثل في المخطوطات العتيقة التي تغير مسار التوثيق في الموسوعات الكاشفة عن رموز حضارات الأمم السابقة.
حين أخذ المنقبون عن الآثار بالسعودية يغوصون في النبش بأخاديد نجران (جنوب السعودية)، المصنفة على قائمة اليونسكو، تم الكشف عن "رأس الثور" البرونزي، وفق ما أعلنت هيئة التراث السعودية الأحد الماضي.
يشار إلى أن "الثور" يحمل وراء رمزياته ودلالاته قروناً طويلة وحضارات متعاقبة تعود إلى أزمنة ما قبل الميلاد. ويشير الاكتشاف الحديث إلى أن أسرار المكان لم تبح بكل ما وراءها بعد.
بحسب هيئة التراث السعودية فإن رأس الثور البرونزي "مصنوع من معدن البرونز وعليه آثار أكسدة"، ويجري العمل حالياً على ترميمه وفق المنهج العلمي، لكن ما دلالات هذا الاكتشاف الذي يعد الثاني في شبه جزيرة العرب، إذ اكتشف من قبل مجسم مشابه للثور في البحرين يعود إلى الحضارة الديلمونية في الألفية الثالثة قبل الميلاد.
المعروف بحسب الأثريين، "أن رأس الثور كان من الأمور السائدة والشائعة لدى ممالك جنوب الجزيرة العربية في عصور ما قبل الإسلام، فهو رمز القوة والخصوبة لدى السبئيين والمعينيين والقتبانيين".
خصوبة الأرض والزرع والإنسان
اكتسبت رؤوس الثيران قيمة لدى الإنسان الأول، بحسب الدراسات المنشورة في هذا الصدد، إذ تتسم في المعتقدات القديمة بقوة جسمانية وخصوبة تتعلق بالثور والأرض والزرع والبشر.
في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، كانت عقائد البشر جنوب وشمال شبه الجزيرة العربية مرتبطة بالـ"الهلال وعبادة القمر". كما تشير إلى ذلك رسومات رؤوس الثيران التي تأتي للدلالة على الارتباط الوثيق بينها وبين معتقد الإنسان آنذاك.
يذكر أن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن القبائل العربية أو المتعربة البائدة (قبائل عاد وطسم وجديس وجرهم والعماليق والصفوة) كانت تتعبد إلى آلهة القمر.
يخبرنا الباحث في التراث الشعبي شوقي عبدالحكيم في "موسوعة الفلكلور والأساطير العربية"، أن "مدينة العلا شمال غربي السعودية التي تعود للقرن السادس قبل الميلاد عبدت القمر، وهو ما يعد دليلاً على سمو العرب الذين لم يعبدوا سوى الأجرام السماوية ما قبل الميلاد". أن "النصوص الحفرية التي خلفتها هذه القبائل المندثرة ودونت بالخط المسند لم تتجاوز في عبادتها آلهة ثلاثة هي القمر والزهرة والشمس". ويدل هذا الثالوث الفلكي في رأيه، من واقع أساطير العرب الجنوبيين أن "القمر كان هو الإله الذكر الأب، والابن هو الزهرة، والأم هي الشمس".
فيما ترى الأكاديمية بكلية الآثار بجامعة القاهرة فوزية عبدالمغني أن "الثور كان من القرابين الحيوانية المفضلة في شبه الجزيرة العربية". تضيف "لرؤوس الثيران المعدنية في منطقة الخليج دليل واضح على الاتصال الحضاري مع (بلاد النهرين) حيث تم الكشف عن رؤوس ثيران في جنوب العراق تحمل الأسلوب نفسه لحضارات شبه الجزيرة العربية، (التي عثر عليها أخيراً في الخليج العربي)، بينها رأس ثور من حضارة (تاروت) وهو محفوظ حالياً بمتحف البحرين".
العقيدة القمرية وعبادة الثور
يعد تمثيل الثور ذي القرون المعقوفة في عديد من المواقع الأثرية في شبه الجزيرة العربية خلال الألف الثالث والثاني بمثابة البدايات الأولى للعقيدة القمرية، وهي التي تبلورت في الألف الأول قبل الميلاد. حين جسد أهل شبه الجزيرة العربية الآلهة القمري بهيئة الثور ذي القرنين نظراً إلى تشابه قرنية مع شكل الهلال.
وعن دلالات التعبد بالثور نفسه تستدل الأكاديمية بـ"مكعب الحمراء" الذي عثر عليه في قصر الحمراء في "واحة تيماء" شمال السعودية، وهو محفوظ الآن بمتحف الرياض الوطني. ويعود تاريخ المكعب الذي كان ضمن مكتشفات حديثة في السعودية إلى القرن الخامس والرابع قبل الميلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول عنه "يبدو (مكعب الحمراء) محفوراً من جانبيه بمشاهد دينية محفورة، ويشغل منتصف المشهد الأول رأس ثور موضوع على مذبح، وقد صور رأس الحيوان من الأمام مع قرص الشمس بين قرنيه، بينما يقف كاهن يرتدي جلباباً طويلاً إلى يساره، ويملأ بقية المشهد قرص شمس متقن إلى يسار رأس الثور، بينما هلال ونجمة إلى يمينه. ذلك المشهد يصور أن لرؤوس الثيران قدراً عظيماً حتى أنها زينت قيثارات وتيجان وخواتم أهل الحضارة الدلمونية التي قامت في جزيرة البحرين وشرق الجزيرة العربية في الألفية الثالثة قبل الميلاد".
تتابع كما أن "للثور في أختام الحضارة الدلمونية دلائل على النماء والقوة والبطش، وهي صفات ملكية في الحضارات القديمة بالشرق الأدنى القديم".
القيثارة ورأس الثور
هل شاهدت يوماً قيثارة عتيقة مزينة برأس ثور؟
بحسب "مجلة الاتحاد العام للأثريين العرب" (علمية محكمة)، فإن "النصوص المسمارية الدينية تفسر أن السومريين الذين عاشوا في الألفية الثالثة كان من بين طقوسهم حين يهمون بتقديم القرابين إلى المعبودات، خصوصاً إذا كان القربان ثوراً، العزف على القيثارة، لتخفف أنغامها حدة خوار الثور أو البقرة أثناء الذبح. من هنا صارت القيثارات تتزين مقدماتها برأس الثور".
تضيف المجلة العلمية المحكمة أن رؤوس الثيران كانت تستخدم مصبات للمياه في المذابح الحجرية أو ضمن موائد القرابين بقرية الفاو الأثرية، التي تعد عاصمة "كندة" الأولى، وهي إحدى الممالك العربية القديمة التي يعود تاريخها للقرن الرابع قبل الميلاد.
تتابع "يعتقد أيضاً أن الآشوريين في الألفية الثانية قبل الميلاد عبدوا (الثور المجنح) وإن كان ثمة روايات تنفي الأمر، إلا أنه من المؤكد أنهم اتخذوا الثور رمزاً للقوة كما تشير (اللاماسو) وهي نوع من الكائنات الأسطورية المختلطة التكوين، ففي أكثر الأحيان تكون بهيئة ثور مجنح برأس إنسان وأقدام أسد، أو برأس إنسان وأقدام ثور، لتجمع بذلك كرمز للقوة بين أربعة عناصر يتحقق بها الكمال هي، الأسد للشجاعة، والثور للقوة، والنسر للمجد، والإنسان للحكمة، وهي فكرة مستمدة من اعتقاد البشر بالعناية الخارقة".
فتح أثري جديد
يعتبر الباحث التاريخي إبراهيم المكرمي الذي يعيش في نجران، أن "الاكتشاف الذي أعلنته هيئة التراث في السعودية فتح جديد في التاريخ المدون، فرأس الثور يعد طوطما معروفاً (الطوطم كيان يمثل رمز القبيلة وأحيانا يقدس) في ثقافات قديمة منتشرة حول العالم، وأبرز سماته علاقته الكبيرة بالزراعة والخصوبة والوفرة".
وبحسب المكرمي "يبدو أن نجران كانت حاضرة زراعية كبيرة نظراً لموقعها الجغرافي، وعبور أحد أكبر أودية الجزيرة العربية، وهو وادي نجران، وهناك دلالة مهمة أيضاً تكمن في علاقة نجران خلال القرن السادس الميلادي بحضارات أخرى كانت تحمل المعتقد نفسه".
يضيف المكرمي "بالنظر لثقافات الشعوب قديماً فإن الثور يعتبر سيد الحيوانات الماشية وهو ملكها، فالثقافة الصينية تعتبره إنساناً معاقباً أنزل من السماء ليخدم البشر، كما أن له شأناً عظيماً في الهندوسية، وهو كائن مقدس عند كثير من الحضارات القديمة".
اكتشاف "رأس الثور" المثير الذي تناقلته القنوات المحلية السعودية، جاء ضمن مشروع أثري لهيئة التراث السعودية لأعمال مشروع التنقيب الذي تنفذه بموقع الأخدود الأثري في منطقة نجران للموسم الـ11 2022 بمشاركة مجموعة من الخبراء السعوديين.
تستهدف هيئة التراث بالمشروع "الكشف عن أدلة ومعطيات علمية جديدة تساعد في فهم التسلسل الحضاري الذي لعبه موقع الأخدود الأثري بمنطقة نجران منذ العصور التاريخية المبكرة، ويكشف الغطاء عن دلالات حضارية لمنطقة جنوب المملكة من حيث التعاقب الحضاري الذي نشأ على أرضها، وهو ما يفسر وجود وانتشار المستوطنات البشرية منذ عصور ما قبل الميلاد على التعاقب الحضاري بمنطقة نجران مما يدل على الصلات الحضارية التي لعبتها المنطقة في تلك الفترة".