الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فمما لا شك فيه أن العودة إلى الذنب المرة بعد الأخرى دليل على وجود شائبة في التوبة؛ لأن من كرم الله تعالى وعظيم إحسانه أنه ينعم على التائبين حتى يوصلهم إلى الغايات المحمودة، وأوجب على نفسه المباركة بكلماته التامة ألا يعذب عباده إذا وحدوه؛ قال نبي الله شعيب: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رحِيمٌ وَدُودٌ}[هود: 90].
كما أن اسم الجلال الشكور من أسمائه الحسنى، وقد قرنه باسمه الغفور؛ قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } [الشورى: 23]؛ ليبين أن أنه لا يغفر للمسيء فقط وإنما يضاعف له الحسنات!
وتأمل - وفقك الله - حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، قال: "ومن قالها من النهار موقنا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة".
ففي قوله: "أبوء لك بنعمتك علي": اعتراف بنعمته عليه في الحسنات وغيرها. وقوله: "وأبوء بذنبي": اعتراف منه بأنه مذنب ظالم لنفسه؛ وبهذا يصير العبد شكورًا لربه، مستغفرًا لذنبه، فيستوجب مزيد الخير، وغفران الشر من الشكور الغفور، الذي يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل". قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/ 203-204).
والحاصل أنه على قدر الصدق في التوبة تكون رعاية الله وإنعامه، وولايته ووده، وشكره وهدايته ومغفرته، ومن ثمّ يتحقق الثبات عليها؛ فعلى قدر صدق الإنسان في التوبة يكون الثبات عليها.
ومن المعلوم أن التوبة من أجل شعب الإيمان – لأن حقيقتها الرجوعُ إلى الله بِفِعْلِ المأمور، واجتناب المَحظورِ - والقلب إذا باشر حقيقة الإيمان لم يتركه، وإذا خالطت بشاشة الإيمان القلب لم يسخطه أبدًا، ومهما ألقى الشيطان بعد هذا في القلب من الوساوس والخطرات، فإنه ينكرها، مع التيقن أن التوبة المتقدمة حسنة، وأن معاودة الذنب سيئة، ولا تبطل معاودة الذنب الحسنة، كما لا تبطل ما قارنها من الحسنات، وهذا من عظيم رحمة الله؛ فتأمله!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(16/58) "فالتوبة النصوح هي الخالصة من كل غش، وإذا كانت كذلك كائنة فإن العبد إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمن خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يعد إلى الذنب. فهذه التوبة النصوح وهي واجبة بما أمر الله تعالى.
ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب قَبِل الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضًا. ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يُصرَّ، بل يتوب ولو عاد في اليوم مائة مرة؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يحب العبد المفتن التواب"، وفي حديث آخر: "لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار"، وفي حديث آخر: "ما أصرَّ من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة". اهـ.
وقال في "مختصر الفتاوى المصرية"(ص: 562)" "وأما التوبة النصوح فقد قال عمر بن الخطاب وغيره من السلف: هو أن يتوب ثم لا يعود، ومن تاب ثم عاد فعليه أن يتوب مرة ثانية، ثم إن عاد فعليه أن يتوب، وكذلك كلما أذنب ولا ييأس من روح الله، وإن لم تكن التوبة نصوحًا فلعله إذا عاد إلى التوبة مرة بعد مرة من الله عليه في آخر الأمر بتوبة نصوح. والتائب إذا كانت نيته خالصة محضة لم يشبها قصد آخر، فإنه لا يعود إلى الذنب؛ فإنه إنما يعود لبقايا غش كانت في نفسه، وقد قيل: إنه قد يعود من تاب توبة نصوحًا، وقد يقال: إن الأول أرجح؛ فإن الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب لم يسخطه أبدًا، والقلب إذا باشر حقيقة الإيمان لم يتركه، وهذا أصل تنازع فيه الناس.
والاستقراء يدل على أنه إذا خلص الإيمان إلى القلب لم يرجع عنه، ولكن قد يحصل له اضطراب، ويلقى الشيطان في قلبه وساوس وخطرات، ويوجد فيه همًا، وأمثال ذلك". اهـ. مختصرًا.
وجاء في "مدارج السالكين" لشيخ الإسلام ابن القيم (1/ 293): "... فمعاود الذنب مبغوض لله من جهة معاودة الذنب، محبوب له من جهة توبته وحسناته السابقة، فيرتب الله سبحانه على كل سبب أثره ومسبَبَه بالعدل والحكمة، ولا يظلم مثقال ذرة؛ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
هذا؛ وسألخص لك بعض الخطوات العملية للثبات على التوبة، والإقلاع عن المعاصي عمومًا وهذا الذنب خصوصًا:
منها: العمل بكل ما أوجبه الله تعالى، والكف عن معاصيه بجد واجتهاد، عزم وإقبال على الخير، والتمسك بشدة وصرامة بعهد الله وميثاقه، بهذا تتحقق تقوى القلب وخشوعه، ودوام الصلة بالله سبحانه؛ قال الله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63]، وقال: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقوَّةٍ} [مريم: 12]، أي: بجد واجتهاد وعزم، لا كمن يأخذ ما أمر به بتردد وفتور؛ فلا بد مع فرائض الشريعة من القوة والجد، واستجماع النفس والتصميم على الفعل، والإرادة الجازمة، وبهذا يستقر منهج الإسلام في القلب تصوراً وشعوراً، وتقوى ورقابة وخشية، ويستقر في السلوك أدباً وخلقاً.
منها: الإكثار من الأعمال الصالحة؛ فالقرآن والسنة قد دلا على أن الحسنات هي التي تحبط السيئات، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
ومنها: تقوية الخوف من الله - عزَّ وجلَّ – وهو أفضل ما يحمل صاحبه على ترك الذنب، وفالخوف من عقاب الله ومكره، واستشعار عظمته تعالى، وأنه يعلمُ سرَّ وأخفى= يثمر الإقلاع عن المعصية؛ قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 40، 41]، و"الخوف من الله هو الحاجز الصُلْب أمام دَفَعَات الهوى العنيفة، وقلَّ أن يثبَتَ غيرُ هذا الحاجز أمام دَفَعَات الهوى"، كما قال صاحب "الظِّلال".
وقد تكاثرت آي القرآن على أنه فرضٌ على كلِّ أحدٍ؛ قال اللهُ تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُون} [النور:51]، وقال: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن} [المائدة: 44] ومدح أهله وأثنى عليهم؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * َالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57-61].
والخوفُ المحمودُ هو ما حَجَزَ عن محارم الله، كما قال شيخَ الإسلام ابن تيمية.
ومنها: قطع الخطرات، جاء في " الداء والدواء"(ص: 154) للإمام ابن القيم "وأما الخطرات: فشأنها أصعب، فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرًا إلى الهلكات، ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير مُنى باطلة". اهـ.
ومنها: صدق الالتجاء إلى الله تعالى، بالضراعة والدعاء بيقين، فالله سبحانه وتعالى جَوَادٌ، كَرِيمٌ، قريبٌ، مجيبٌ يَغْضَبُ عَلَى مَن لَا يَسْأَلُهُ، وهُو - سبحانه - يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، وهوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ؛ قال الله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
ومن أجمع الأدعية المأثورة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي ولساني ومن شر مني"، "اللهمَّ إني أسألك الهدى والتُّقى والعفاف والغنى"، "اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي"، "رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي"، و"اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"، "اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلاقِ؛ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا؛ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ"، "اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي"،، والله أعلم.