هكذا تحدث ونستون تشرشل إلى الشعب البريطاني. في خضم المعارك العنيفة والدامية، وتحت ركام الدمار الذي تلحقه الطائرات الألمانية بالعاصمة لندن، كانت الحقيقة هي السلاح الأقوى الذي واجه به السياسي المحنك الداهية ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، أسراب الطائرات الألمانية التي تقتل البشر وتدمر البنيان. رئيس الوزراء البريطاني الذي سبقه تشمبرلين، رفع ورقة التهدئة التي تحمل مواد التفاهم التي توصل إليها مؤتمر برلين الرباعي، ووعد الشعب البريطاني بالسلام، ودعا شعبه إلى أن ينام في أمان، فقد عاد لهم من ميونخ بجرعة سلام أسطورية.
اليوم وروسيا تخوض حرباً واسعة في أوكرانيا، فقد صارت موسكو عاصمة تواجه تحالفاً دولياً واسعاً. يغدق السلاح والمال على كييف، ويفتح أبوابه لاستقبال ملايين الأوكرانيين الفارين من ويلات الحرب. الحديث عن اليورانيوم لم يعد من الكلمات المخيفة، بل المحرمة. استعمال السلاح النووي صار من الكلمات التي تطفو في أخبار وسائل الإعلام، وكأنها من مصطلحات أخبار الطقس. السياسي الروسي المتشدد ميدفيديف يقول بملء صوته إن بلاده ستدافع عن وجودها بكل الأسلحة، بما فيها السلاح النووي. الصواريخ الروسية الجديدة، التي تخترق أخبار اختراعها سرعة النشرات الجوية، هي القبضة التي لا تغيب عما يجدّ من صواعق الوعيد. حرب روسيا في أوكرانيا، لها عضلات وحواس تبدع لغتها، وتعيد إنتاج سخونتها وآفاق فعلها. الولايات المتحدة الأميركية لم تعد ترى أن هناك ما يلزم لكتمان حجم مساعداتها العسكرية والمالية الضخمة المتدفقة إلى أوكرانيا. الدبابات الحديثة تشحن إلى أوكرانيا من دول الناتو الأوروبية والقذائف المشحونة باليورانيوم المنضب التي تقدمها الولايات المتحدة وبريطانيا إلى أوكرانيا، يعلن عنها بلغة إنجليزية فصيحة، وزيلينسكي رئيس أوكرانيا يقول هل من مزيد. طائرات الـ«إف 16» الأميركية، الهبة الأوروبية والأميركية الاستراتيجية التي لها قدرات قتالية نوعية مميزة، تحمل عداداً حروفه من متفجرات ونار تصرخ بالوعيد. تقول إن هذه الحرب ستطول وتتسع، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بمداها المكاني والزمني. تدريب الطيارين الأوكرانيين على هذا النوع من الطائرات المتطورة تقنياً، يحتاج إلى عدة شهور، بل قد يستغرق سنوات. من المبررات التي ساقتها روسيا لإطلاق ما أسمته بالعملية العسكرية الخاصة ضد أوكرانيا، هو نوايا من أسمتهم بالنازيين الجدد في أوكرانيا، الانضمام إلى حلف الناتو، ما يعني تهديداً استراتيجياً خطيراً لأمنها. لكن النتيجة كانت ما لم يتوقعه سياسي روسي، أو يقرأه استراتيجي عسكري. اليوم، التف حزام رهيب من دول صارت أعضاء في حلف الناتو حول خصر روسيا العريض. العقوبات التي فُرضت على روسيا ستلحق بها أضراراً على كل المستويات. السؤال الرهيب أمام روسيا اليوم قيادة وشعباً وجيشاً هو؛ إلى متى ستستمر هذه الحرب؟ وما هي الأسلحة التي ستجد روسيا نفسها مكرهة على استعمالها؟ الصاروخ الروسي الذي أعلن عنه مؤخراً، ووهبوه اسم الشيطان، كل ما فيه يخيف البشرية كلها، وليس أوكرانيا وحدها، حتى أوروبا وأميركا. صاروخ مداه 15 ألف كيلومتر، وله قوة تدميرية كبيرة، وقد لا يخلو من سلاح نووي. هذه الحرب تنشر الدمار في أوكرانيا، وترش الخوف على مساحة روسيا. ضُربت بطون الملايين في مختلف قارات العالم. صارت البطون ساحة قتال، ليس للبشر فحسب، بل للحيوانات التي هزلت بسبب غلاء العلف أو غيابه. التضخم قذيفة أخرى طالت كل أصقاع الأرض، التي لم تكد تستعيد شيئاً من عافيتها بعد جائحة «الكوفيد».
كل حرب تبدع أدواتها وأسلحتها وزمنها. لكن السياسيين الذين يقودون الحروب يتخلقون في مصانع خاصة. الشاعر الرسام ونستون تشرشل الذي حصل على جائزة نوبل، لم ينلها مكافأة له على دوره الأساسي والحاسم في هزيمة النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، بل زفّ الجائزة إليه إبداع خياله الذي جسّده في لوحات رسم بديعة، وفي قصائد شعرية مكثفة، رقصت فيها الكلمات وغنت وفكرت وعزفت. قاد ونستون الحرب الكونية بعقل سماده الدهاء وسلاحه الحقيقة والشجاعة المحسوبة والغوص في تفاصيل تكوينات شعبه، وقادة جيوشه. قال عن الفيلد مارشال مونتغمري؛ إنه قائد لا يطاق ولا يُهزم. يا له من تشخيص نفساني وسياسي وعسكري، من عقل يخطط وخيال مبدع. الزعيم الألماني الذي كان عدوه الأكبر، بدأ رساماً، وغامر كاتباً، وحليفه الدوتشي الزعيم الفاشي الإيطالي موسوليني، بدأ صحافياً وكتب قصصاً قصيرة، لكن الاثنين غرقا في وحل الوهم الآيديولوجي، والنزق العنصري والتيه التاريخي، فكانت الهزائم التي انتهت بهما وببلديهما إلى الدمار. الزعيمان الآخران اللذان كان لهما دور حاسم في الحرب العالمية الثانية، هما الرئيس الأميركي روزفلت والزعيم السوفياتي ستالين. روزفلت العجوز المقعد، كان المعبر عن البراغماتية الأميركية التي تمد رداء قوتها فوق أطراف عالم جديد، لكنه رداء من نسيج المال والنار، نجح في تأسيس الولايات المتحدة الأميركية الجديدة، القوة العالمية الضاربة، بقوة أنتجتها قدرات علم جديد، صنعت سلاحاً لم يعرفه البشر من قبل. من الطائرات والدبابات إلى السلاح النووي. الزعيم السوفياتي ستالين كان له من اسمه نصيب. الرجل الحديدي. الجورجي الشيوعي الذي كانت أمه تتمنى أن تراه راهباً في كنيسة بلدتها الصغيرة، أما والده عاشق الخمر فلم يكن يهبه أي قدر من الاهتمام. ستالين قارع قوات هتلر الكبيرة الرهيبة بمساحة روسيا وجغرافيتها، وبإصراره الحديدي الذي كانت الأرض بالنسبة له أثمن من البشر.
موسكو عاصمة روسيا التي استعصت على قوات هتلر الرهيبة، وقبله على أرتال نابليون بونابرت، وتقاسمت مع الغرب الليبرالي نصف العالم لسنوات، موسكو اليوم أمام خيارات، أحلاها قد لا يجد من يتذوقه، أو من لا يريد أن يمد له يده. آية الله الخميني الزعيم الإيراني قال يوماً في نهاية حرب بلاده مع العراق إنه اضطر أن يشرب كأس السم من أجل السلام. والرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول قال إنه يريد سلام الشجعان مع قادة الجهاد الجزائري، واتخذ قرار إنهاء الاستعمار الفرنسي للجزائر.
الرئيس الروسي بوتين، هل سيكون تشرشل أو الخميني أو ديغول، أم سيكون الرجل الحديدي الروسي الثاني ستالين؟
موسكو يرفرف حولها الدم، ويسيل فوق أجساد العاملين في مصانعها المدنية والعسكرية العرق، والدموع تقطر من عيون أهل القتلى. بأي من هذه السوائل سيكتب بوتين في قصر الكرملين بموسكو قراره النهائي الأخطر والرهيب في هذه الحرب التي لا يمكننا الغوص الآن في أبعاد قاعها؟