خيارات إسرائيل المقلقة!

منذ 1 سنة 137

ليست هناك مفاجأة في أحداث غزة إلا في التوقيت وحجم عملية «طوفان الأقصى». فغزة كانت تعيش وضعاً كارثياً تحت الحصار المستمر 17 عاماً تحت أنظار العالم، وفي ظل تجاهل كبير لمحنتها. والأوضاع في الساحة الفلسطينية عموماً بقيت تغلي منذ أن قرر بنيامين نتنياهو والمتطرفون الإسرائيليون وأدَ حل الدولتين، وساعدهم العالم على ذلك بإزاحة القضية الفلسطينية من أجندة الاهتمام، بينما استمرت سياسات التوسع الاستيطاني وقضم الأراضي، وتشديد الضغوط على الفلسطينيين، وتصاعد الاستفزازات في القدس.

إحساس الفلسطينيين بالغبن لا بد أن يكون ازداد وهم يرون ازدواجية المعايير في تعامل الغرب مع الأزمة الأوكرانية، وعلو الأصوات عن الحقوق المشروعة، والقوانين الدولية، ومقاومة الاحتلال، بينما يتلاشى هذا الكلام عندما يتعلق الأمر بهم وبقضيتهم.

ماذا كانت تتوقع إسرائيل والعالم إذاً؟

داخل إسرائيل، كانت هناك أصوات ولو قليلة، تحذر من أن إغلاق طريق السلام، وسياسة الغطرسة، والتمادي في هضم حقوق الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم، ستقود إلى تفجير الأوضاع. لكن العالم لم يأبه لتلك الأصوات، ما جعل حكومة نتنياهو تتمادى في سياساتها التصعيدية، وغطرستها إلى أن بوغتت بـ«طوفان الأقصى»، الذي ستكون له تداعياته بالتأكيد.

إسرائيل تحشد الآن لهجوم بري واسع متوقع في أي لحظة، و«حماس» والحركات الفلسطينية الأخرى لا بد أن تكون قد وضعت ذلك في حساباتها عندما أقدمت على هذه العملية، وبالتالي استعدت له. المعركة المتوقعة ستكون أصعب من كل سابقاتها بالتأكيد، وستكون خسائر الطرفين أكبر. القتال في شوارع غزة الضيقة، وأحيائها المكتظة بالسكان سيكون عملية صعبة وربما يعني قتالاً أطول مما حدث في حرب صيف عام 2014 التي استمرت 51 يوماً. حجم الخسائر المادية والبشرية، وعدد الصواريخ التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية، وأطنان القنابل والمقذوفات التي ألقتها إسرائيل على القطاع طيلة فترة تلك الحرب، تم تجاوزها اليوم حتى قبل أن يبدأ الاجتياح البري المتوقع.

التفكير الإسرائيلي يبدو منصباً على عملية ضخمة لإحداث أكبر دمار ممكن في غزة، و«تأديب» حركة حماس والفصائل المتحالفة معها. فقد أكد الأدميرال دانيال هاغاري المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، في تصريحات يوم الثلاثاء، أن مئات الأطنان من القنابل أسقطت بالفعل على غزة، وأقر بأن «التركيز ينصب على الضرر وليس على الدقة». فإسرائيل تمارس الآن سياسة العقاب الجماعي سواء بالقصف غير المسبوق، أو بوضع غزة تحت حصار شامل.

إسرائيل لو فكرت بعقلانية فإن كل عملياتها السابقة في غزة أو في الضفة، لم تحقق لها سوى هدن متقطعة في أفضل الأحوال، أما السلام الحقيقي فيبقى بعيد المنال. كل القوة المميتة التي تستخدمها، والقبة الحديدية، والجدار المكلف، والمراقبة الإلكترونية والجوية المستمرة، لم تنجح في حمايتها وانكشفت بوسائل بسيطة جداً وبعضها بدائي استخدمتها «حماس» والفصائل المشاركة معها في «طوفان الأقصى». جرافات تدمر الجدار وتفتح ثغرات فيه لعبور المقاتلين، عبور بالسيارات وطائرات شراعية، ودراجات نارية، وحافلات التوكتوك، وموجات من صواريخ لا تقارن بأحدث التقنيات العسكرية التي تملكها إسرائيل.

المشكلة أن إسرائيل لن ترى الأمور من هذا المنظور، بل إن نتنياهو، تحت الضغط الراهن واتهام حكومته بأكبر فشل أمني، قد يفكر أيضاً في إعادة احتلال قطاع غزة، وهو خيار لن يكون بالغ التكلفة لإسرائيل فحسب، بل سيقود المنطقة كلها إلى وضع كارثي مفتوح على كل الاحتمالات، بما فيها توسيع رقعة الحرب وتداعياتها، وخلق مزيد من عوامل زعزعة الاستقرار لا سيما مع صعود اليمين الإسرائيلي الذي يريد محو القضية الفلسطينية تماماً، بينما بدأ كثيرون يجاهرون بدعوات طرد الفلسطينيين وتهجيرهم وتفريغ الأرض منهم.

في مايو (أيار) الماضي، كتب المحلل الإسرائيلي جدعون ليفي في صحيفة «هآرتس»، محذراً من أنه بعد نجاح نتنياهو واليمين المتطرف في قتل حل الدولتين سيكون هناك مخططان أو احتمالان لنهاية نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) الذي تسير فيه إسرائيل؛ «أحدهما يفضله اليمين المتطرف وجميع الإسرائيليين تقريباً، وهو وقوع نكبة ثانية. ففي حال وصلت المواجهة إلى ذروتها، ووجدت إسرائيل نفسها أمام خيارين: إما نظام يقوم على دولة ديمقراطية واحدة لشعبين، وإما طرد جماعي للفلسطينيين من أجل الحفاظ على الدولة اليهودية، فإن الخيار المرجّح والواضح لكل يهودي إسرائيلي تقريباً هو طرد الفلسطينيين».

مثل هذا الخيار الثاني هو الذي يجعل الكثير من دول المنطقة تقلق من سياسات نتنياهو، ومن انسداد أفق السلام الفلسطيني. لهذا لم يكن غريباً أن تسارع القاهرة للرد على ما بدا أنه محاولات إسرائيلية لتشجيع سكان غزة على التوجه إلى مصر بحثاً عن الأمان من القصف العنيف المتواصل منذ أيام.

إسرائيل تريد وتتمنى نفض أيديها من القضية الفلسطينية وترحيلها إلى الدول العربية الأخرى. تريد تطبيعاً بلا مقابل حقيقي، وسلاماً بلا ثمن أو تنازلات. هذا تفكير لن يحقق حلاً، أو استقراراً، بل سيزيد في تأزيم الأوضاع.

الحقيقة التي لا مفر منها أنه لا حل ولا استقرار من دون سلام عادل، وهذا له ثمن لا تريد إسرائيل دفعه. وطالما بقي الأمر على هذه الحال، وظلت أجندات نتنياهو واليمين المتطرف تدفع باتجاه مزيد من السياسات التوسعية، ومحاولات محو القضية الفلسطينية، فسوف تستمر دورات العنف والحروب، ولن تعرف إسرائيل السلام، ولن تنعم المنطقة بالاستقرار الذي تتوق إليه.