خنادق الخوف العالية

منذ 1 سنة 158

بعد أن حطَّت الهند مراكبها على القمر، وأرسلت تقنيتها في تجريدة علمية تستطلع ما يستدير حول الشمس من خيوط... بعد هذا الفتح العلمي الكبير، ارتفعت أصوات تدعو إلى العودة لاسم الهند القديم «البهارا». هل يريد بعض الهنود أن يهربوا من زمان أو من مكان أو من عهود طالهم فيها ضيم الاستعمار والفاقة، ويدخلوا في رحلة خيال يمتزج فيها العلم بما في دنيا الروح من قدرات عابرة للمكان وسطوات الزمان ودوراته؟

الشعب الهندي امتلك منذ القدم حضارة لها خصوصية روحية متنوعة... في بلاد تعدد فيها كل شيء؛ اللغات والأديان والطبيعة. هل استبق علماء الهند غيرهم من البشر في قراءة الآتي بما فيه من تغيرات كبيرة مقبلة، فأرادوا أن يبدعوا في عقولهم دنيا بديلة؟ لا شك في أن قفزات الهند العلمية والاقتصادية تؤكد أن تلك البلاد لها قدرات تستحق أن نبني فوقها أكثر من برج من خيال، وننسج حولها أكثر من سؤال يرفرف.

كل ما في العالم اليوم يدق ملايين النواقيس. في كل ثانية تتدفق الأخبار من مشارق الأرض ومغاربها، تحمل ما يهز النفوس من كوارث من صنع البشر أو من غضب الطبيعة. طوفان هائج يكتسح مساحات واسعة من قارات العالم، والحرائق تلتهم الأخضر واليابس، والزلازل تدفن آلاف البشر تحت ركام ما كانوا يحتمون بسقفه. الآلاف من الغرقى تبتلعهم مياه البحار، وهم يخوضون رحلة البحث عن الحياة. الكرة الأرضية تختنق، فقد هاجر الأكسجين في رحلة غير نظامية إلى لا مكان. الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي قرر الشروع في رحلة انتحار سائلة، لينحر بثلجه السائل الأرض التي اعتدى ساكنوها على سكينته السلمية الباردة في المحيطات. لن يكون الجليد الصامت أقل جرأة من المطر الذي يداهم بمياهه المتدفقة مناكب الأرض. الآن تبدأ الكائنات الصلبة والسائلة الصامتة زمن الانتقام من أولئك الذين وهبتهم الحياة، فبادروا إلى خنقها بعد أن استعبدوها قروناً طويلة.

البشر أبدعوا فنون القتل، وسخروا لها عقولهم وما فوق الأرض وتحتها من جامد ومتحرك. المصانع والمخازن ممتلئة بكل أنواع السلاح، أما مخازن الأدوية والطعام فهي تعاني من الجوع والهجران والفراغ والبؤس، مثلما يعاني البشر في جنوب الكرة الأرضية. البشر يبدعون معاركهم كل يوم، وإنتاج السلاح يفوق إنتاج الطعام والدواء. تلك عضلات الحديد المضافة لعضلات البشر، لكن للطبيعة أيضاً عضلاتها التي يسكنها الغضب، وتمتلك قوة الضرب العنيف. الإرهاب القاتل لا يوفر مكاناً ولا أعماراً. الأطفال يطلقون النار على زملائهم في الفصول الدراسية، ومتطرفون كبار يرفعون أصواتهم احتفالاً فوق جثت قتلاهم الذين لا يعرفونهم.

تراجع الشعر والموسيقى والإبداع المسرحي والأوبرا، ولم يعد هناك روميو وجولييت، وقيس وليلى، وسواهم ممن يرشون عطر الحب على جسم الوجود. صارت المخدرات هي البديل للإبداع الإنساني، فهناك سوق للخيال تبيع كبسولات صغيرة في وريقات مطوية، تحيل الرؤوس إلى دنيا الإبداع والخيال الوهمي، وتكفي زبائنها جهد الاستماع والقراءة أو الجلوس في صالات المكتبات والمسارح. لم يعد إرهاق العقل من الضرورات كي يبدع، فللفكر الخيالي أسواق مجنونة.

نظرية الارتقاء تفعل فعلها بقوة... من القرد إلى الإنسان، إلى الكائن الحديدي الذكي، الذي سيصنع دنياه الجديدة الموعودة. لن يصنع كائنات حديدية تعاند ذكاءه الرهيب، أو تسمم ما حوله، أو تحرق الأكسجين وتستهلك المياه، وتأكل ما تهبه الأرض من طعام. سيبدع أشجاراً من حديد، ولن يرهق عقله الحديدي بكتابة شعر أو عزف موسيقى، كل ذلك سيكون صلباً لا يحتاج لحروف تكتب، أو آلات تعزف. ولن يكون الكائن الحديدي الذكي بحاجة للعشق الناعم والعطور وموضة الملابس، والسهر في الحانات والمسارح ودور السينما، أو قضاء الإجازات على شواطئ البحار وفوق الجبال. فكل شيء حديدي عملي؛ بما في ذلك المشاعر والمزاج. لن تثقل عقله هموم الإنجاب والمسؤولية العائلية، ولن يسيل على جسمه العرق، فالعقول الحديدية لا ينالها التعب أو الإرهاق.

لن تكون هناك حاجة للعملة أو البنوك والطرق والسكك الحديدية. العصر الحديدي الذكي ستكون له القدرة على تحريك كل شيء عن بعد بنظرة أو همسة، أو حتى بمجرد الإحساس برغبة ما في شيء ما. لقد تمكن الحديد من أن يمتص آخر ما في عقل البشر قبل أن يأتي عليه ألزهايمر الموعود، وليؤسس الكائن الحديدي زمنه الموعود على ركام الكائن المُخرِّب. ستحتفي بقايا الأرض بالكائن الحديدي ابن بطن مناجمها، الذي استولى على الغنيمة الأسطورية من رأس البشر. تلك كانت القفزة الكبرى في حلقات التطور والارتقاء.

الباقون من البشر فوق الأرض بعد أن يتسيدها الكائن الحديدي لن يكون أمامهم سوى التكيف مع آمرهم الذي لا يرحم، وسيتحولون إلى ريبوتات مطيعة، تفرح بما يقدم لها من بقايا البقايا. لكنهم سينعمون بالسلام والرفاهية والصحة. عندما يتولى الكائن الحديدي قوة القرار في كل شؤون الحياة، فإنه لن يستهلك ما في الوجود من أكسجين، أو ما تنتجه الأرض من نباتات، ولن ينهش لحوم الحيوانات. فقط شحنات محدودة من الكهرباء تهبه قوة الحركة، ويتولى بنفسه بعد ذلك كل شيء.

«البهارا»؛ أو الهند القديمة الجديدة، تتحرك نحو كتابة عقد خيالي جديد مع عالم يسبح في نهر الإحباط والخوف، ونحن نحاول أن نقرأ ما في موجات سديم يلوح بآتٍ كل ما فيه يتحدث بلغة إشارة مراوغة، حذراً من مخازن الدمار التي تملأ الرؤوس. أين ستقام إمبراطورية الإنسان الحديدي الذي تنتظره الطبيعة المغتصبة؟ وهل سيهرب البقايا نحو خنادق عالية في الفضاء، أم إلى تجاويف في قاع الأرض؟