تهدأ الحركة ويصطف الجميع إلى الخلف لتتقدم الخالة سعيدة لإيقاد نار التنور بكل عزم وكأنها توقد شعلة أولمبية، كيف لا والأمر يتعلق بتجهيز خبز التنور الذي لا تكتمل بهجة المائدة الرمضانية الليبية إلا بحضوره، لما في نكهته من حلاوة وبخاصة إذا ترافق مع طبق الشوربة العربية.
يأتي صوت الحاج حمد، زوج الخالة سعيدة، ليشق أجواء الصمت المخيمة على المكان، فجميع العيون تراقب تركيز سعيدة المنصب على تغذية نار الفرن الطيني ببعض قطرات البنزين المنسابة من بخاخة بلاستيكية أعدت للغرض، متسائلاً "هل أجلب لك مزيداً من الحطب"، لتجيبه من دون أن ترفع عينها من التنور الذي يجب أن تشتعل ناره من الأسفل للأعلى ضماناً لجودة الجمر "لا فالكمية كافية".
مكونات بسيطة
تتحرك الخالة سعيدة وهي من مدينة مصراته شرق طرابلس والساكنة في بنغازي، بكل خفة وكأنها تنافس بحركتها رقصات لهيب النار بعد اطمئنانها إلى سريان الحياة في فرنها الطيني، لتقطع العجينة المتخمرة إلى أقراص ملساء يعلوها اللون الأسود لحبات البركة أو كما يسمونها في ليبيا "كمون أسعد".
وتفترش سعيدة بساطاً تقليدياً على الأرض ضماناً لثبات آنية العجنية التي تختلف مكوناتها من مدينة إلى أخرى ومن بيت لآخر، ولكنها كما توضح سعيدة لا تخرج عن الدقيق والخميرة والملح والقليل من السكر والماء وبعض حبات البركة.
تخلط سعيدة جميع المكونات وتعجنها لتصبح عجينة متجانسة ثم تتركها قليلاً لتتخمر وتذهب لتتفقد نار التنور وهي تقول إن "سر جودة خبز التنور في خفته التي تعتمد هي الأخرى على فن العجن والحرص على التخمير الذي يمتد لأكثر من ساعة"، وتضيف وعلامة الفخر تعلو محياها، "ابيض الجمر وهذا يعني أن التنور بات جاهزاً لاحتضان الخبز".
فن التحضير
تجلب آنية حديدية وتضع فيها جزءاً من الجمر المتلألئ في قاع الفرن الطيني الذي هدأت الخالة سعيدة حرارته برش زواياه بقليل من الماء والملح لضمان عدم التصاق الخبز.
وتشمر سعيدة عن ساعديها وتقسم العجين إلى كريات ومن ثم تبلل راحة يدها بالماء وتلصق أقراص العجين على جدران التنور ثم تغلقه بوضع آنية الجمر الحديدية التي سبق تجهيزها فوقه، ومن ثم تنصرف لتنظيف أواني العجن وعيون أحفادها الثلاثة تراقب حركتها في صمت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحضير خبز التنور للعائلة المكونة من 10 أفراد إضافة إلى الأحفاد لم ينس الخالة سعيدة اهتمامها بأنوثتها وحرصها على حماية يديها من لسعات حرق التنور، لذلك تراها ترتدي قفازات عند اقتلاعها لأقراص الخبز.
وتمكنت سعيدة بحركة واحدة بالسكين تنم عن حرفيتها من اقتلاع جميع أقراص الخبز، ملحقة هزيمة بنار الجمر التي فشل لهيبها في تشويه جمال اللون البني لخبز سعيدة. ترصف الخبز بكل عناية في طبق وتحمله لفناء المنزل وكأنها تحمل كأس الفوز في مباراة شاقة انتظر نتائجها أهل بيتها للاستمتاع بطعم خبز التنور الطيني الذي يعشقه كل ليبي.
فرن التنور
وقبل ترك الخالة سعيدة كان لا بد من معرفة طريقة صناعة "التنور" التي تعتمد على الطين الطبيعي الذي تتم تنقيته جيداً من بقايا التراب ويخلط بالماء ويترك مدة يومين ليتخمر. وتوضح أن "المرحلة المقبلة تعتمد على تقسيم الطين المتخمر إلى حلقات سميكة يتم تركيبها لاحقاً فوق بعضها بعضاً ليخرج التنور في شكله الدائري النهائي".