طالما ارتبط اسم "حيزية" بقصة حب حزينة في الموروث الشعبي الجزائري تضاهي في جمالها قصصاً خلدها التاريخ العالمي وألهمت الشعراء والكتاب، مثل "روميو وجولييت" و"قيس وليلى" و"عنتر وعبلة" و"جميل وبثينة".
وقصة حيزية وابن عمها سعيد إحدى أيقونات العشق التي عرفتها الجزائر في تاريخها الحديث، إذ لم يمض على أحداثها سوى 145 سنة، وتجسدت تفاصيلها في شعر شعبي ملحن خلد أحداثها ونقشها في الخيال الشعبي.
وتأخذ القصة الجزائرية هذه شهرتها من النص الشعري الذي يحمل اسمها، فلولا قصيدة الشاعر ابن قيطون ما كان لهذه القصة أن تعرف طريقها إلى التاريخ وتصبح أيقونة قصائد الشعر البدوي في الحب، وغناها كبار المطربين في المنطقة وخارجها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعتمد الذاكرة الجزائرية في ترديد وقائع القصة على قصيدة "حيزية" المشهورة للشاعر الشعبي محمد بن قيطون، غير أن صعوبة اللهجة المحلية حالت دون خروجها من دائرتها المغاربية إلى النطاق العربي والعالمي.
بقيت قصة هيام حيزية بحبيبها سعيد وعشقه لها متداولة بين الناس في مجتمع محافظ، إذ تمسكت الفتاة بحب حياتها على رغم الضغوط الممارسة عليها، لتنتصر في النهاية وتتزوج بحبيبها لكن الموت كان سريعاً وخطفها بعد فترة قصيرة من ذلك، ويتحول قبرها بعد ذلك إلى معلم أثري وسياحي، وتتطاير قصتها بين قصائد شعرية وروايات أدبية وأغان شعبية.
حب عذري
أحداث قصة حيزية وقعت في منطقة سيدي خالد، الواقعة في مدينة بسكرة الصحراوية جنوب شرقي الجزائر العاصمة، وتعود هذه الأحداث إلى النصف الثاني من القرن الـ19.
ولدت حيزية بوعكاز، ابنة أحمد بن الباي، عام 1855 قرب سيدي خالد، الواقعة بولاية بسكرة جنوب شرقي الجزائر، في عائلة بدوية دأبت على الترحال بين موطنها الأصلي ومنطقة بازر سكرة نواحي مدينة العلمة بمحافظة سطيف حالياً، كما هي عادات القبائل العربية التي تعيش على أسلوب التنقل بين رحلتي الشتاء والصيف، هجراً لحر سيدي خالد على ضفاف الصحراء، وطلباً لأنس التل في أيام البرد الشديد.
كانت حيزية من جميلات البادية، زينتها الوحيدة ضفائرها وكحل عينها ووشم الحنة في راحة يدها وأرجلها، أما سعيد فكان فارساً من فرسان سيدي خالد العريقة وابن عمها، وبقيت حيزية أسيرة خيمتها ولا تغادرها إلا لحاجة كأن تذهب لتملأ الماء، وهي فرصة لا يفوتها سعيد الذي كان يتصيد خروجها هذا ليرى حبيبته ولو من بعيد.
حيزية وقعت في حب ابن عمها سعيد الذي ترعرع يتيماً في كنف والدها، وبحكم القرابة أحبا بعضهما بعضاً بعمق، لكن بصمت إذ ترجمت حريق العشق بينهما لغة العيون.
اللقاءات بين العشاق كانت تتم خلال حل وترحال القبيلة وعلى الأخص الرحلة السنوية التي تقود البدو من الصحراء إلى الهضاب العليا خلال الأيام الأولى من الصيف وتعود بهم إلى مضاربهم مع بداية الخريف، ومع مرور الزمن أصبحت هذه الرحلة تقليداً لا بد منه حتى ولو جادت السماء في الصحراء.
بفارغ الصبر كان الشباب ينتظرون هذه الرحلة لأنها تجديد لحياتهم الرتيبة في الصحراء، وتمكنهم أيضاً من الالتقاء بعشيقاتهم خلال الترحال فالمسافة طويلة تدوم أياماً.
سعيد كان ينتظر هذه الرحلة على أحر من الجمر، إذ لا تكاد "حيزية" خلالها تختفي عن عينيه، ولا بد أنه "وهو الشاب القوي" سيشارك من قريب أو من بعيد في مساعدة الأسرة في شد الأحمال الثقيلة على الجمال أو إنزالها وفي نصب الخيم أو طيها، أما أثناء سير القافلة فقد كان يطوف بجواده حول الهودج الذي يأوي حيزية لتطل عليه من حين إلى حين مظهرة جمالها الفتان وبسمتها الساحرة ونظرتها التي تنبئ بالحب والإخلاص، مظهراً هو بدوره فروسيته وشجاعته واهتمامه بها.
أحب ابنا العم بعضهما بعضاً منذ الصغر وقررا الزواج في تحد للوالد الذي أراد تزويجها لأحد كبار القبيلة، لكن حيزية تمسكت بحبها، مما دفع الأب إلى طرد سعيد خوفاً على سمعة ابنته بعد انتشار أخبار عشقهما بين الناس.
وتعقدت قصة حيزية وسعيد أكثر حين عزم والدها على تزويجها عنوة لأحد فرسان القبيلة الذين كانوا يتسابقون للفوز بقلبها لشدة جمالها وسحرها الذي خطف عقولهم.
لكن حيزية تمسكت بحبيبها ورفضت الخضوع لجبروت والدها وقبيلتها وتحدت جميع القيود، وأمام إصرارها بعدما ذاقت مع حبيبها الأمرين استسلم الجميع وأقروا زواجهما على مضض.
وطار قلب العاشق فرحاً بعد فوزه بحبيبة حياته التي تربى في حجر والدها، وتم الإعداد للفرح وتزوج العاشقان بعد نجاحهما في معركة إقناع الوالد والعشيرة بقوة الحب الجارف بينهما منذ الصغر.
ألم الفراق
لكن الزوجين العاشقين لم يعلما ما يخبئه لهما القدر، إذ أصيبت حيزية بمرض خطر أدى إلى وفاتها بعد زواج لم يدم سوى 40 يوماً وعمرها لم يتجاوز 23 سنة.
وقعت الفاجعة على قلب سعيد وتركته كالمجنون، وهو لا يصدق أن الموت خطف محبوبته من بين يديه التي قضى سنين عمره واقعاً في عشقها.
لم يجد العاشق سعيد بعد وفاتها ملجأ يواسي همومه سوى الشاعر الشعبي محمد بن قيطون الذي طلب منه أن يرثي حيزية لكي يريح نفسه من الغم، فكتب الشاعر قصيدة حملت اسمها باللهجة المحلية، سارداً فيها مأساتهما، واشتهرت القصة في البادية الجزائرية.
وأدرك الجنون سعيد وهو ما زال في ريعان الشباب، فهام على وجهه بين الوديان والكثبان، معيداً قصص حب مأسوية غابرة، لكن الشاعر الكبير محمد بن قيطون أنقذ قصتهما الحزينة من طي النسيان، وسيموت سعيد لاحقاً ويدفن في مكان قصي عنها، لكن القصيدة خلدت رحلتهما ونقلتها بين الأجيال.
في رواية أخرى لم تتزوج حيزية بسعيد، لأن والدها (عمه) منع هذا الحب الصامت، وماتت قهراً على حبيبها. وتاه العاشق في الصحراء وهام على وجهه منعزلاً عن الناس، إذ يقول الشاعر محمد بن قيطون في النص نفسه، إنه كتب القصيدة (1878) عام وفاة حيزية.
غير أن رواية ثالثة للقصة ظهرت في 2019 حين كشف الروائي الجزائري واسيني الأعرج عن نتيجة رحلة بحثية قادته سنوات للنبش في قصة حيزية وسعيد، مكذباً جزءاً مما جاء في الروايات السابقة، ولعل أبرزها ترجيح فرضية أن حبيبها سعيد لم يكن سوى الشاعر نفسه ابن قيطون.
الأعرج قال في مقالة له "أجزم أن العاشق هو الشاعر نفسه، بحسب قوة اللغة الشعرية في التعبير عن الألم والحزن ووصف المحبوبة، إلى جانب الجرأة في كسر الأعراف كالبوح بإقامة علاقة جسدية، فكيف يمكن لسعيد أن يعبر عن ذلك على لسان الشاعر ويبقى في القبيلة؟".
وأضاف "لقد كانت هناك قصة حب بين حيزية وابن قيطون حتماً، وما كان سعيد إلا قناعاً لبسه الشاعر، أو شخصية متخيلة اختفى وراءها، مثلما حدث مع الكاتب الإسباني سرفانتيس الذي استعان بشخصية ابن أنجلين في رواية (دون كيشوت) للإفلات من محاكم التفتيش، لذلك أنا أقدم قراءة جديدة لملحمة حيزية، بعيداً من الإسقاطات التقليدية والأخلاقية للقصة المتداولة".
قصيدة خالدة
حققت قصيدة "عزوني يا ملاح في رايس البنات" تخليداً للشاعر الذي لم يكتب غيرها، وهي تروي في أسلوب عذب رقراق تلك الأسطورة الحقيقية، ودخلت في الثلث الأول من القرن الـ20 لائحة الأغاني الكلاسيكية الخالدة المصنفة في خزانة التراث الصحراوي الجزائري.
وألهمت القصيدة عشرات من الفنانين بالجزائر وخارجها، وأداها كبار الفنانين الجزائريين من أمثال رابح درياسة وعبدالحميد عبابسة وأحمد خليفي في مختلف المسارح والميكروفونات.
ومكنت جهود أبناء مدينة سيدي خالد بمحافظة بسكرة في صيانة قبر حيزية الذي تحول مع مرور السنوات إلى مزار يقصده السياح والباحثون في التراث الشعبي.
وأنتج المخرج الجزائري محمد حازورلي فيلماً تلفزيونياً مطولاً في 1976 عرض فيه قصة حيزية على الشاشة، وتبعه الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، الذي أخرجها إلى العالم العربي في قصيدة كتبها بعنوان "حيزية عاشقة من رذاذ الواحات" ليدخلها إلى الشعر الحديث عام 1986.
وفي 2018 أصدر الروائي الجزائري لزهر لبتاري رواية بعنوان "حيزية أميرة حب الزيبان" صور فيها رحلة قافلة القبيلة برفقة حيزية وسعيد في أواخر القرن الـ19، وقبل ذلك كانت الروائية الفرانكوفونية مايسة باي أصدرت عام 2015 رواية بعنوان "حيزية" التي أسقطت قصتها التراجيدية على يوميات فتاة جزائرية تعيش في العصر الحالي وتحمل الاسم نفسه.