حول رثاثة الوجود... والرثاء المتكلّف

منذ 1 سنة 144

للرثاء بريقه؛ فهو حديث إنسانٍ عن ميّت. وفيه نشوة عارمة؛ لأنك حين تتحدث عنه تشعر بأنك سدّدت دَيناً عليك.

وحين تقوم بذلك إنما تصغي إلى ذاتك الأنانية أكثر مما تنتبه إليه. وإذا كان الأثر يقول: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا»، فإن الرثاء يأتي على جمائل الإنسان وخصاله بعد الموت، فيه بحثٌ عن الخلود الذاتي، إذ يتحوّل الميّت إلى موضوع شيّق، ومُغرٍ للكتابة. ولذلك يقول عبد الرحمن بدوي: «العرب مُغرَمون بالسير وراء الجنائز».

ثمة حالة من التباهي بمعرفة الميّت، وضع الصورة معه، حلب الذكريات حتى ولو كانت قليلة، استدرار الدموع، كل ذلك من أجل إثبات علاقة الحيّ بميّته. ومن الرثاء ما هو صادق، وبخاصةٍ حين يرثي الإنسان نفسه قبل موته، مثل مالك بن الريب في شهيرته: «ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة»، ومنهم من رثى بسخاء مثل الخنساء في رثاء أخيها صخر، وفي الشعر الحديث مرثية الجواهري بأخيه، ففي الرثاء صدقٌ، وفيه تملّق، وفيه استعمال، وفيه استعراض، وكل نصّ وصدقه، وظرفه وحيويته، أو فشله.

ينظر البعض إلى أن الرثاء الحقيقي صعب ولكنه ممكن، ولذلك يذكر ويؤرّخ له، حين تفقد عزيزاً يصعب عليك الحديث عنه؛ لأنه هو والحدث أكبر من الكلمة، ومستعصٍ على اللغة.

حتى اليوم لا أفهم حين يصوّر الإنسان نفسه بجوار مريض معلناً أنه يعرفه، أو حين يضع صورته معه بعد موته باعتباره صديقه، بينما قبل موته ربما كان يشتمه، أو لا يتصل به، أو يتآمر عليه.

في قصيدةٍ ثمينةٍ لمحمود درويش: «يُحبُّونَنِي مَيِّتاً لِيَقُولُوا: لَقَدْ كَان مِنَّا، وَكَانَ لَنَا. سَمِعْتُ الخُطَى ذَاتَهَا، مُنْذُ عِشْرِينَ عَاماً تدقُّ عَلَى حَائِطِ اللَّيْلِ. تَأتِي وَلَا تَفْتَحُ البَابَ. لَكِنَّهَا تَدْخُلُ الآن. يَخْرُجُ مِنْهَا الثَّلَاثَةُ: شَاعِرٌ، قَاتِلٌ، قَارِئٌ. أَلَا تَشْرَبُونَ نَبِيذاً؟ سَأَلْتُ. سَنَشْرَبُ. قَالُوا. مَتَى تُطْلِقُونَ الرَّصَاصَ». إنهم يريدونك ميتاً حتى ينصفوك، ويريدونك خارج منافستهم حتى يذكروا أجمل ما فيك، إن الرثاء في مكانٍ ما - وليس كله - فيه أنانية متعالية، وفيه استهتار بحدث الموت.

كلنا يقرأ الكثير من القصائد الراثية، والكلمات التأبينية، والعبارات التوديعية، ولكن من أندر أبواب الغنى في الشعر العربي باب الرثاء؛ لأنه يحتاج إلى الصدق، والشعر عذوبته في كذبه.

ولمّا كان بعض الرثاء خالداً، كما في نماذج محدودة ومحدّدة في كتب تاريخ الأدب، علمنا أن هذا المجال وعرٌ لأنه يتطلب الصدق، ومن يعرف الميت بحق، يصعب عليه رثاؤه إلا لقلةٍ من الشعراء عبر التاريخ.

لكن ثمة من يركب موجة الحدث لإثبات تأثره، أو لذرف دموع التماسيح على القبر، أو لإرضاء الجماهير.

من فقد عزيزاً بحق، عرف أن الرثاء مرتقًى صعبٌ سُلّمه. رثى المتنبي جدّته؛ وهي بمثابة أمه، ولكنه في آخر القصيدة أصيب بالملل، فمدح نفسه قائلاً:

وإني لمن قومٍ كأن نفوسهم

بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما

أما عن قول المتنبي:

رماني الدهر بالأرزاء حتى

فؤادي في غشاءٍ من نبال

وكنتُ إذا أصابتني سهامٌ

تكسّرت النصال على النصال

يعلّق جابر عصفور على النص: «‬هنا‭ ‬يبدأ‭ ‬قصيدته‭ ‬بموقف‭ ‬حيادى،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يمدح‭ ‬الكوارث‭ ‬أو‭ ‬الأحداث،‭ ‬ولا‭ ‬يذمّها،‭ ‬فإن‭ ‬الأحداث‭ ‬أو‭ ‬الكوارث‭ ‬إذا‭ ‬بطشت‭ ‬بنا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬جهلاً‭ ‬منها،‭ ‬وإن‭ ‬كفّت‭ ‬عن‭ ‬الضرر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬حِلماً‭ ‬منها؛‭ ‬لأن‭ ‬الفعل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬لله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ،‬وإنما‭ ‬تُنسب‭ ‬الأفعال‭ ‬إليها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المجاز‭ ‬والاستعارة، ‬هكذا‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬الخلق،‭ ‬وبدأهم‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬جعل‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬خلقه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينقص‭ ‬كما‭ ‬يزيد،‭ ‬فلا‭ ‬ذنب‭ ‬للمصائب‭ ‬حتى‭ ‬يذمّها‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬يمدحها‭.‬ وينتقل‭ ‬إلى‭ ‬جدته‭ ‬قائلاً‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬تعجب‭ ‬لافتة،‭ ‬واصفاً‭ ‬إياها‭ ‬بأنها‭» ‬مفجوعة‭ ‬بحبيبها،‭ ‬قتيلة‭ ‬شوق‭ ‬يشرفها‭ ‬ويشرف‭ ‬هذا‭ ‬الحبيب‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬جدته‭ ‬شوقها‭ ‬إليه،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬اشتاقت‭ ‬من‭ ‬تُثاب‭ ‬على‭ ‬شوقه،‭ ‬وليس‭ ‬أجرها‭ ‬إلا‭ ‬بالصبر‭ ‬عليه،‭ ‬ولا‭ ‬يملك‭ ‬حفيدها‭ ‬إلا‭ ‬الصبر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أصابه‭ ‬من‭ ‬موتها،‭ ‬ولذلك‭ ‬يحنّ‭ ‬هذا‭ ‬الحبيب‭ ‬إلى‭ ‬كأس‭ ‬الموت‭ ‬التي‭ ‬شربت‭ ‬منها‭ ‬جدته،‭ ‬ويُهيل‭ ‬على‭ ‬قبرها‭ ‬التراب‭ ‬الذي‭ ‬ضم‭ ‬جسدها‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أحنّ‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬عاشتها،‭ ‬فتحملت‭ ‬شوقها‭ ‬إليه‭ ‬واغترابه‭ ‬الدائم‭ ‬عنها‭.‬ تصبح‭ ‬القصيدة‭ ‬أكثر‭ ‬ذاتية‭ ‬عندما‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الخامس،‭ ‬فيحدثنا‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬بكائه‭ ‬على‭ ‬جدته‭ ‬في‭ ‬حياتها،‭ ‬خوفاً‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬ولكن‭ ‬الموت‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬شوقه».

لم يرثِ المتنبي أحداً قطّ إلا ومدح نفسه، ولم يمدح أحداً قط إلا من أجل مدح نفسه، بل بجّل تاريخه، وذكر محاسنه، ووضع الميّت عالياً لأنه جزء منه.

ببساطة؛ نحن البشر نغمض عيوننا عن أنفسنا، هذا الشوه الكبير، التباهي بالذات، اعتبار الآخرين هوامش ونحن المتون، واعتبار الراحلين موضوعات ونحن الكتَبة، إنها رذيلة عظمى حين تتجلى هذه النزعة المأساوية من المعنى.

في الرثاء حيلة مخيفة، وكأن الراثي يتنفس الصعداء بأن من يرثيه همّ وانزاح.

من المخيف أن تكون راثياً، ومن المرعب أن تكون مرثيّاً، إنها ذروة الأنانية العالية، وقمّة الدناءة الوجودية حين تشعر بالزهو والغرور وأنت تكتب قصيدةً عن ميّت. لذلك صنّف البعض الرثاء من أبواب «المديح» في الأدب، ومنهم من يعتبره من الوجدانيات بعمومها؛ لأن الإنسان بطبعه يَعتبر أن الموت للآخرين وليس له، يمرّ إليهم ولا يمرّ عليه.

على من ينوي رثاء الآخرين، أن يرثي لحاله، إن الرزيّة الكبرى ما نراه من التباهي، والتنافس، وتعارك النفوس، والصراعات، وازدياد الحنق، وكثافة الضغينة، والتردي في القول، والرثاثة الوجودية بكل معانيها، وحين تقرأ رثاء البعض للراحلين، تشعر بأنك تقرأ لقديس، بينما الشوه يملأ ما على لابتيها. على الراثي أن ينظر إلى وجهه في المرآة، وأن يتأمل هل يستحق أن يقول عن ميّت، رقد متوجهاً نحو غيبه، مزيّة واحدة؟!

الموت لا يخصّ الراحلين وحدهم، بل الشيء الوحيد الذي يجمع بين البشر عدا عن الكذب، والصراخ، هو الموت. وعلى حد تعبير «بافيزي» في قصيدتها سيأتي الموت: «سيجيء الموت... وستكون له عيناك».