حول خطاب الجماعات الصهيونية المتطرفة

منذ 10 أشهر 168

لم يعد التطرف في الخطاب الديني والسياسي المصاحب للعدوان الإسرائيلي على غزة خطاب جماعات صهيونية متطرفة، إنما أصبح خطاب منظومة الحكم السائدة والمهيمنة داخل المجتمع الإسرائيلي، وتضم على السواء نخباً سياسية وعسكرية ودينية.

والسؤال المطروح عربياً: ماذا سيفعل المعتدلون العرب والفلسطينيون الذين اعتادوا أن يواجهوا تنظيمات صهيونية متطرفة وسياسات إسرائيلية استعمارية، ولكنهم أصبحوا الآن في مواجهة مجتمع ومنظومة حكم متطرفة، وإن الحلول التي طرحها العرب المعتدلون منذ مسار أوسلو في 1993 حتى مبادرة السلام العربية في 2002 القائمة على الأرض مقابل السلام، والتطبيع والاعتراف بإسرائيل مقابل دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع والقدس الشرقية، باتت محل رفض إسرائيلي كامل؟

المؤكد أن رفض منظومة الحكم بزعامة نتنياهو، حلَّ الدولتين وإدانة مسار أوسلو، لم يكن مجرد رفض سياسي من حكومة متطرفة لمقترح سياسي آخر إنما بات هذا الرفض يمثل تياراً مهيمناً على منظومة الحكم والمجتمع.

ولذا لم يكن غريباً أن يطالب وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي يرأس حزب «الصهيونية الدينية» المنضوي داخل التحالف الحكومي الحاكم، بـ«تشجّيع» فلسطينيي غزة البالغ عددهم 2.4 مليون تقريباً على مغادرة القطاع إلى دول أخرى.

ونفى سموتريتش وجود الشعب الفلسطيني، خلال زيارة خاصة لباريس قبل عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، قائلاً: «إن فكرة الشعب الفلسطيني مصطنَعة ولا يوجد شيء اسمه دولة فلسطينية. لا يوجد تاريخ فلسطيني. لا توجد لغة فلسطينية»، وتحدث على منصة مغطاة بما يبدو أنها صورة تُظهر خريطة إسرائيل التي تشمل الضفة الغربية المحتلة وغزة والأردن.

وقد استخدم نتنياهو وتقريباً كل قادة ما تُعرف بالأحزاب المدنية في إسرائيل، وليست فقط الأحزاب الدينية، مفردات دينية تُحرّض على القتل والتدمير، فقد استدعى نتنياهو نبوءة «إشعياء» لتبرير مواصلة حربه على غزة، وقال: «نحن أبناء النور بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام».

غير أن الحاخام مانيس فريدمان تحدث صراحةً عن أن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية: «دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم». وأن تلك هي قيم التوراة التي ستجعل الإسرائيليين «النور الذي يشع للأمم التي تعاني الهزيمة بسبب الأخلاقيات المُدمِّرة التي اخترعها الإنسان»، ويؤكد أنها الطريقة التي تشكل «الرادع الوحيد والحقيقي للتخلص من ثبات الفلسطينيين ومقاومتهم المستمرة».

ويحتاج المرء إلى استدعاء خطاب «داعش» في مواجهة المخالفين لهم عقائدياً، لكي نجد مفردات مشابهة لتلك التي استخدمها هذا الحاخام اليهودي.

أما وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، فقال إن أحد خيارات إسرائيل في الحرب على غزة، هو «إسقاط قنبلة نووية».

الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ الذي يصنفه البعض بالمعتدل قال إن «جميع سكان غزة (مسؤولون) عن هجوم (حماس) المفاجئ على إسرائيل، وإن هذا الخطاب بشأن عدم علم المدنيين أو عدم تورطهم فيه غير صحيح على الإطلاق».

أما وزير الدفاع يوآف غالانت، فقد سبق وقال: «نحن نقاتل الحيوانات البشرية ونتصرف وفقاً لذلك».

ولنا أن نسترجع تاريخ القادة العسكريين العرب الذين دخلوا في حروب أو مواجهات ضد إسرائيل، فلن نجد تصريحاً واحداً لمسؤول عربي عسكري أو مدني يصف سكان إسرائيل بـ«الحيوانات البشرية» مهما كان موقفه الداخلي منهم، ومهما كانت قسوة الحروب التي دخلها ضدهم، ولأن قادة إسرائيل يعرفون أنهم فوق المحاسبة وفوق القانون وأن العنصرية والكراهية والدعوى للإبادة الجماعية أخذت «صكاً على بياض» لممارستها على مدار عقود حتى أصبحت جزءاً أصيلاً من خطاب منظومة الحكم وليس فقط تنظيمات التطرف.

لقد بات الخطاب السائد في إسرائيل تقريباً عكس ما يردَّد في العالم، فالمؤكد أن هناك درجة هائلة من التعاطف والدعم للقضية الفلسطينية على المستوى الشعبي، وعلى مستوى محاولات تقديم نخب بديلة للنخب المهيمنة مالياً وسياسياً في الغرب، صحيح أنها لم تُترجم في معادلات حكم جديدة في أوروبا وأميركا، إلا أن هذا الدعم الشعبي العالمي لحقوق الشعب الفلسطيني قابَلَه موقف إسرائيلي سائد وحاكم يُنكر هذه الحقوق ويمارس خطاب تحريض وكراهية وإلغاء لوجود الشعب الفلسطيني.

تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة عن أن عملية 7 أكتوبر 2023 (التي أدانها بوضوح) لم تأتِ من فراغ وكانت لها أسبابها في ممارسات الاحتلال، قابلتها أحاديث لقادة إسرائيل «المدنيين» عن إلقاء قنبلة نووية على غزة، وتصريحات أخرى دينية تَعدّ القتل والتدمير يمثل «الأخلاق اليهودية». وإنَّ تحرُّك جنوب أفريقيا التاريخي في محكمة العدل الدولية، واتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، قابله تطرف إسرائيلي يصف الفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية ويعدّهم شركاء في عملية 7 أكتوبر مما يُضفي مشروعية على قتلهم وإبادتهم.

إن التحركات الدولية من أجل وقف الحرب وموقف جنوب أفريقيا من جرائم إسرائيل كلها تنتمي إلى التحركات المدنية والشعبية التي تُصنَّف في خانة الاعتدال؛ فهي لا تدعو لمحو إسرائيل، ولا تسيء إلى اليهود بخطاب معادٍ للسامية، وهي على النقيض من مدرسة مواجهة إسرائيل بالإضرار بحرية الملاحة الدولية، فهي تحاصرها بنضالٍ مدنيٍّ يفهمه العالم.

مطلوب من تيار الاعتدال العربي ألا يغادر موقعه، بوصفه مشروع ورسالة «اعتدال»، إنما أن يصبح بطرق مختلفة جزءاً من فضح الجرائم الإسرائيلية، ولا يمكن القول إن التعامل مع نخب إسرائيلية آمنت في فترات سابقة بأهمية السلام لإسرائيل نفسها وانتمت لتيارات في اليمين واليسار والوسط، مثل مناحم بيغن وإسحاق رابين إلى جانب آلاف النشطاء في منظمات السلام الآن وغيرها، بل حتى المتطرف شارون أقر بأنه يجب ألا تكون إسرائيل سلطة احتلال للفلسطينيين... سيكون هو نفس التعامل مع نخب ومنظومة حكم تكره السلام وترفض حل الدولتين ولا ترى أي حقوق للشعب الفلسطيني، وهذا سيتطلب من المعتدلين المؤثرين في العالم العربي أن يكونوا جزءاً من الضغوط الدولية والقانونية والشعبية على إسرائيل كلٌّ بطريقته وكلٌّ بأسلوبه، وأن نُقرّ بأن إسرائيل تغيَّرت للأسوأ وبأن نخبتها في الحكم والمعارضة باتت تتبارى في درجة التطرف والتحريض والكراهية.