حول الأثر المتجدد للفلسفات الحيّة

منذ 1 سنة 203

لا يزال تأثير فلسفة نيتشه يتجدد؛ الدراسات والحوارات، والشروحات تصدر عنها باستمرار. عن النظريات الخارقة التي ابتكرها، والأسلوب الجديد، والشذرة المكتنزة. جيل دلوز رأى أن الفيلسوف هو «شاعر المفاهيم»، ونيتشه قاد رحلة «شعرنة الفلسفة»، وهي الآلية التي أُعجب بها مارتن هيدغر في بعض كتاباته، وفي طريقة قراءاته لشعراء عصره، فهيدغر كتب النصوص الشعرية علاوة على «شعْرنة الفلسفة» لتصبح مدججة بالصور والرموز ومحاطة بهالة من الغموض الساحر، غير أن تلك «الشعْرنة» لا تحوّل النص إلى محض خيال. فشعْرنة نيتشه، داهمت كل الفلسفات والفنون.

الفلسفة ليست كيانات منفصلة أو قبائل متناحرة، وإنما وحدات تتعدد؛ لذا كتب جيل دلوز: «نرى ماركس، والقبسقراطيين، وهيغل ونيتشه، يمسك بعضهم بأيدي بعض في رقصة دوارة تحتفل بتجاوز الميتافيزياء».

قبل أيام قرأتُ حواراً مهماً مع ميشال أونفري، أجراه فرانز أوليفييه غيسبيرت، وترجمه لصالح مجلة «حكمة» الحسن علاج.

فيه عرّج أونفري على تجربته الطويلة مع نصوص نيتشه وفلسفته ونظرياته. رأى أن المرء ينبغي عليه «أن يقتفي أثره الخاص. الإنسان الذي أكد في (هكذا تكلم زرادشت) أنه ينبغي على المرء أن يبتكر الحرية -إنه البرنامج الوجودي طيلة حياة بكاملها وهو برنامجي أيضاً- ليس معلماً متسلطاً، إنه نموذج كما هو الشأن في الفلسفة القديمة برمتها، حيث لم يكن التفلسف يكمن في الإطناب، أو الثرثرة، أو كتابة كتب فلسفة، بل أن يعيش المرء حياة فلسفية، وأن يعيش حياة ملائمة، متوافقة مع ذاته عينها. أشاد نيتشه بفضيلة قلّما يتم الحديث عنها، لدينا معرفة ضئيلة بها، أو تكاد تكون منعدمة، علاوة على ذلك صعوبة الاسم، الذي هو الاستقامة، ألا وهو: المصداقية المُرتابة. الاجتهاد في عيش حياة نزيهة، ذلك ما أحتفظ به لنفسي منه».

ويلخص أونفري رؤيته عن نيتشه بقوله: «يتحدث نيتشه، في بداية كتابه زرادشت، عن تحولات ثلاثة: ينبغي على المرء أن يكون جملاً لحمل أثقال الماضي، ثم أسداً من أجل التخلص من هذا الماضي، بهدف التحول إلى طفل بمعنى بلوغ (براءة الصيرورة)، التي تسمح بابتكار فلسفة جديدة. إن هذه الجدلية في مراحل ثلاث، بمعنى جدلية هيغلية لا تزال، ولو أنها ما بعد هيغلية، هي جدلية نيتشه ذاته، التي تمنح بطريقة مُشفَرة، كما هو في غالب الأحيان، مفاتيح عمله برمته».

لكن ما زمن الجمل لدى نيتشه؟!

«يعد زمن الجمل لديه هو زمن قارئ شوبنهاور، حيث يضع كتّاب العالم كإرادة وتمثل رهن إشارته وجهات نظر فلسفية جديدة: حيوية أحادية، هي حيوية الإرادة التي تجعل الثنائية القديمة اليهودية - المسيحية متجاوزة، والتي تقدم تفسيراً لحيوية لما يوجد، هذه الإرادة الشهيرة، التي هي ليست إرادة علماء النفس، قوة الاختيار، الإرادة، بل قوة تجعل من كينونة الكائن ممكنة؛ فلسفة تراجيدية يتقاسم السأم والمعاناة، بمقتضاها، حياة كل إنسان، لكنها تؤكد في نفس الوقت التأمل الجمالي بشكل عام، والموسيقي بشكل خاص، تسمح بتأمل حتمية السلبية. وهو أيضاً الزمن الفاغناري حيث التقى الكاتب المسرحي، ويرى أنه بإمكانه العمل معه كي يجعل من الأوبرا، مناسبة لإضفاء الجمالية على السياسة، انطلاقاً من الأساطير، كما فعل الإغريق مع مسرحهم. إنه زمن ولادة التراجيديا».

بينما «يعد زمن الأسد زمناً أبيقورياً. لقد واصل الصداقة المحطمة مع المؤلف الموسيقي الألماني، الذي لم يجعل من مدينة بايرويت مختبراً، لبناء سياسة انطلاقاً من الموسيقى الألمانية التي تخصص لتعزيز دينامية أوروبية، بل مكاناً مكرساً لشخصه، مع الطبقة الأكثر ثراء، التي موَّلت مشروعه. إنه زمن كتاب المعرفة المرحة، والصداقة الأبيقورية، متأثراً بالفكر الفرنسي؛ فولتير والأخلاقيين الفرنسيين».

أما «زمن الطفل فهو زمن الفلسفة النيتشوية الحقة، إنه زمن إرادة القوة، والعود الأبدي، والإنسان الأعلى، ومحبة القدر كإيثيقا إنسان جديد، وقد تخلص من الجِمال والأسود، إنه بالتأكيد زمن كتاب (هكذا تكلم زرادشت)، قصيدة عظيمة ومذهلة».

لكن من تجربته ما الكتاب المفضل لديه من كتب نيتشه؟!

يجيب بطريقة مركّبة: «أعتقد أن القارئ فهم أن الأمر يتعلق بكتاب (هكذا تكلم زرادشت)، إلا أنه ذلك الكتاب الذي ينبغي عبره الختم، حينما يكون المرء قد قرأ كل كتبه! إنه كتاب المعرفة المرحة، وذلك من خلال مقدمته الرائعة، وعلاوة على ذلك، فإنه يقوم بتركيز كل ما قام به نيتشه: خفة، عمق، أسلوب، أناقة، حيوية، صفاء، جذرية».

الخلاصة، أن الأثر الذي تسبب به نيتشه كبير جداً، حتى هو حين قال عن نفسه: «أعرف قدري... ذات يوم سيقترن اسمي بذكرى شيء هائل رهيب؛ بأزمة لم يُعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجّة في الوعي... فأنا لست إنساناً، بل عبوة ديناميت» -حينها- ربما توقع أن يكون له أثره الكبير لكن ليس إلى هذا الحد المتواصل والمتجدد.