تُسرف الإدارة الأميركية وعلى لسان الرئيس بايدن ووزير خارجيته في الدعوة لحلّ الدولتين. وهي لا تكتفي بالتصريحات، بل بحثت في ذلك مع الرئيسين الفلسطيني والمصري والملك الأردني والأمير القطري ومع الأوروبيين الذين بدأوا يميلون لذلك أيضاً. وعند الإدارة الأميركية تصور أو تصورات لذلك لم تعرضها علناً وهذا مفهوم؛ لأنها لا تزال في مرحلة جمع التأييد. إنّ الواضح حتى الآن أنّ الهدف الأول للفكرة وخططها تجنب المؤتمر الدولي الذي يؤيده الصينيون والروس، والذي لا تريده إسرائيل ولا الولايات المتحدة. وهناك من يقول إنّ هناك أسباباً أُخرى لهذا المنزع تتمثل في انتخابات الرئاسة الأميركية التي تبدأ حملاتها والرئيس بايدن مرشحٌ فيها، وفي الحزب الديمقراطي تأييدٌ متنامٍ للفلسطينيين، كما لدى أوساط يهودية أميركية تريد إنهاء الحروب في إسرائيل وعليها. ومن الأسباب محاولات الأميركيين لإرضاء حلفائهم العرب بالمنطقة وهم شديدو الغضب الآن لما يبدو من عجز أميركي عن إيقاف الحرب المهولة على غزة.
لدى العرب أو بعضهم اعتقاد أنّ الولايات المتحدة إن كانت جادةً في الوصول لحلّ الدولتين، والرئيس الفلسطيني والعرب مؤيدون لذلك؛ فينبغي أن تكون قادرةً على إقناع الشريك الإسرائيلي بأمرين: وقف الحرب، والسير في حلّ الدولتين. وقد قال لي مدير مركز بحوث عربي إنه بحسب اعتقاده فإنّ الولايات المتحدة ما تحدثت بعد بجدية مع الإسرائيليين في الأمرين. هم لا يزالون يرجون إدارة الحرب في إسرائيل أن تقرّ الهُدَن الإنسانية. والإسرائيليون مقتنعون ظاهراً بأنه بوسعهم بالحرب الشرسة على خان يونس قتل قادة «حماس» وإطلاق سراح الرهائن من الأنفاق. أما العجيب، فهو كأنما الإدارة الأميركية مقتنعة بذلك أو تُظهر الاقتناع وإعطاء إسرائيل فرصة أسابيع لتحقيق هدفيها المزعومين. المشكلة أنّ أحداً لا يصدّق بإمكان تحقيق الهدفين، كما أنّ الرأي العام العالمي والأميركي على الخصوص لا يتحمل العنف الإسرائيلي في القطاع ومنع المساعدات لأسابيع مقبلة، فضلاً على أنّ حلفاء الولايات المتحدة بالمنطقة والعالم محرجون جداً، كما بدا في اجتماع مجلس التعاون الخليجي بالدوحة يوم الثلاثاء في 5/ 11/ 2023، والتصريحات القطرية العالية الوتيرة على أثر الاجتماع.
العالم يريد من الولايات المتحدة الأمرين: وقف الحرب، وحلّ الدولتين. ولا شكّ أنّ مسار حلّ الدولتين أصعب لأنه يتطلب مفاوضات طويلة، ويتطلب قرارات إسرائيلية استراتيجية لا تستطيعها أو لا تقبلها حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل. وهكذا يصبح «وقف الحرب» اختباراً لقدرات الولايات المتحدة في التأثير، وإن حصل الوقف بقرارٍ من حكومة الحرب في إسرائيل؛ فإنّ ذلك يكون دليلاً على قدرات الولايات المتحدة الاستراتيجية تجاه إسرائيل التي دعمتها بكل سبيلٍ خلال الشهرين الماضيين، بالعتاد، والأموال، والحماية السياسية. فقد كان الظن أنّ إسرائيل لا تحتاج إلى السلاح، لكنّ الولايات المتحدة احتضنتها بكل سبيل من أجل الضبط والتأثير في المآلات. هناك من المعلقين من يقول ومنهم توماس فريدمان إنّ الولايات المتحدة تستطيع وقف الحرب، لكنها ترى أن الأوان لم يئن بعد؛ لأنّ «حماس» لا تزال حيةً وقوية وقيادتها العليا العسكرية آمرة ومسيطرة، فحتى لو توقفت الحرب فلن يمكن السير في الحلّ التفاوضي لا من جانب الحكومة الإسرائيلية، ولا من جانب «حماس». وهكذا، فإنّ التطورات للحلّ التفاوضي تتطلب تغيير الحكومة الإسرائيلية الحالية، وضعف «حماس» الشديد بحيث لا تستطيع ولا تقدر على اعتراض الحلّ السلمي أو التفاوضي، وهو الحلّ الذي لا تعتبره حكومة المستوطنين الحالية ولا سلطة «حماس» السنوارية عادلاً أو منصفاً للجهتين!
يريد الأميركيون إذن إقناع المنتظرين من العرب وغيرهم أنّ الانتظار المتوتر ليس هباءً وإن امتزج بالكثير من الدماء. لكنّ الأوروبيين (الإسبان والفرنسيين والبلجيك) يقولون لهم: لكن على الأقلّ وخلال اشتعال النار لا بد من حماية المدنيين، ومن إدخال المساعدات من دون قيدٍ أو شرط، وإيقاف القتل في الضفة الغربية والقدس. وهي اعتراضاتٌ وتذمراتٌ ما استطاع الأميركيون الإجابة عنها، وصارت المنظمات الإنسانية ومنها «أطباء بلا حدود» ترفع شكاويها للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي بعد أن يئست من المفوضيات الأُممية ومن الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى!
وسط هذه الظروف والمسبقات المصادمة والشروط يتراجع اعتقاد الأيام الأولى للحرب أنّ حل الدولتين الحاضر فوراً هو البديل للحرب التي يمكن أن تتوقف على وقْع قدومه. وإذا توقفت الحرب الآن على سبيل المثال؛ فإنّ الوضع سيعود إلى ما كان عليه بعد الحروب الأربعة السابقة بين «حماس» وإسرائيل، مع الفارق أنّ الحرب كانت أطول من الحروب السابقة بكثير، وأنّ الخسائر في الإنسان والعمران هي عشرة أضعاف السابق وأكثر. توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» يقترح على قيادة الحرب الإسرائيلية وقف القتال فوراً ومطالبة «حماس» بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين من دون صفقات تبادل بأسرى فلسطينيين. فإن رفضت قيادة «حماس» سيصبح العالم كله ضدها، أما إن استمر الجيش الإسرائيلي في القتال فسيتبين للجميع أنه غير قادر على تحقيق الهدفين اللذين وضعهما لنفسه: إطلاق سراح الأسرى، وإنهاء «حماس» أو إنهاء سيطرتها على قطاع غزة!
هناك من يريد إحياء كيسنجر المتوفى منذ أيام عن مائة عام. فلو كان حياً ومسؤولاً مؤثراً ربما لم يكن ليوقف الحرب الآن، لكن بعد الوقف يكون قد أعدّ خطةً تفصيليةً للتفاوض وحصل على موافقةٍ مبدئيةٍ عليها من سائر الأطراف المؤثرة. كيف كان سينظر إلى «حماس» ومصائرها؟ في الغالب أنه سيتجاهلها ويترك الجيش الإسرائيلي، يحاصرها، في حين يسارع السياسيون من سائر الأطراف للاجتماع بقطر أو مدريد أو أوسلو سعياً لإحياء «أوسلو» أو لاتفاقية جديدة كتلك التي اقترحها الرئيس عبد الفتاح السيسي: الإقبال الدولي على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ثم الاتجاه لحلّ بقية إشكاليات الحلّ النهائي مثل غزة والقدس واللاجئين والحدود وقبل ذلك وبعده الأمن. لكن كل تلك المسائل روجعت مئات المرات، ومنذ النصف الثاني من التسعينات ما عادت هناك عزائم لحلّها بسبب «حماس» وبسبب صعود اليمين الإسرائيلي الذي لم يتوقف حتى اليوم. فمع ارتفاع أسهم الراديكاليين الفلسطينيين وبالاستيلاء أخيراً على غزة ارتفعت على الدوام أسهم الراديكاليين الإسرائيليين حتى انتهت إلى ما هي عليه اليوم.
كيف تُركت الأمور تصل إلى هذا المستوى من التردي؟ اقتناع الجميع بالحلول المؤقتة والتي اعتقد الإسرائيليون والأميركيون أنها تصبّ لصالح إسرائيل في النهاية. فحتى «حماس» قالت بالهدنة الطويلة مع الاحتلال هم يقولون الآن إنهم كانوا يستعدون، أما الإسرائيليون فكانوا غافلين. والنتيجة من التكتيكين أو الاستراتيجيتين هذه المذبحة الجارية والتي تتعاظم مدياتها وخسائرها، وتجعل من إمكانية العيش بين الشعبين جنباً إلى جنب أكثر عسراً وصعوبة.
هل يكون مشروع حلّ الدولتين بديلاً للحرب والحروب المقبلة؟ هذا ما يأمله الجميع، لكنّ الأفق ليس واعداً!