من أكثرِ التعريفات انتشاراً لمفهوم السياسة أنَّها فنُّ الممكن. الأميركيون يدركون ذلك جيداً، بحسب أنَّهم أكثر من نظَّرَ لمفهوم السياسة وضوابطه العملية. وحين يأتي مسؤولون أميركيون كبار بحجم وزير الخارجية ورئيس الاستخبارات ومستشار الأمن القومي، ويطلبون أمراً معيناً يعرفون أنه خارج نطاق الممكن، فلنقل على التفكير الاستراتيجي الأميركي السلام.
الأمثلة كثيرة شرقاً وغرباً، نعرض أحدثها، المتمثل في خطة أمنية، عرضها الوزير بلينكن على رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس بتشكيل قوة وصفها بأنَّها شرطة مدنية قوامها 10 آلاف عنصر، يتم تدريبها على يد خبراء أميركيين أو خبراء من دول صديقة، تكون مهمتها الأساسية الحفاظ على حالة استقرار في مناطق السلطة، وتحديداً مواجهة الجماعات الفلسطينية الشبابية المسلحة التي نشأت كرد فعل منطقي على غطرسة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك كبديل عن قيام قوات الاحتلال بمواجهة هؤلاء المسلحين الفلسطينيين، أثناء دهم مخيماتهم وبلداتهم واعتقال الشباب الفلسطيني بحجج مختلفة، ومن ثم يتحرر الاحتلال من تكاليف المواجهة.
الاقتراح تم طرحه منفرداً تحت سقف التنسيق الأمني الموسع بين أجهزة السلطة وأجهزة الاحتلال، ما يجعله خارج كل أبعاد المنطق السليم، فطرحه منفرداً من دون أن يكون جزءاً من خطة شاملة تُعيد ضخ دماء جديدة في عملية تفاوضية جادة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، إلى جانب إجراءات عملية على الأرض تلتزم بها قوات الاحتلال وحكومة تل أبيب، تعيد الاعتبار للسلطة وأجهزتها المختلفة اقتصادياً وسياسياً ومعنوياً بين أبناء الشعب الفلسطيني ذاته، يجعل الاقتراح نوعاً من الأفكار المعلقة في الهواء، لا سند لها على الأرض، ولا أفق لها في المستقبل القريب. وإن قبل البعض المشاركة في هذه القوة فسيظل أفرادها مطاردين بالإدانة الوطنية، ولا سيما إن حدثت مواجهات موسعة بين تلك القوة وبين جماعات الشباب الغاضب، الذي يرى نفسه أسلوباً نضالياً مشروعاً ضد احتلال استيطاني يرفض الحقوق الفلسطينية.
إنَّ التحفظ الذي تردد أنه كان بمثابة ردّ الرئيس عباس على هكذا اقتراح أميركي إسرائيلي مدمر، له ما يبرره، والمؤكد أن عباس شرح الأمر للزائرين الأميركيين وتبعاته الشخصية والموضوعية وصعوبة تطبيقه على الأرض، وتداعياته العكسية على السلطة ككيان يُفترض أن أحد مهامه الرئيسية هي الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وليس الدخول في مواجهات مفتوحة مع قطاع حيوي من الشعب، من دون أن يكون هناك أي مؤشر على أفق واضح لتسوية جادة.
وفقاً لتقارير إسرائيلية، فإن ضغوط بلينكن وآخرين ركزت على استعادة التنسيق الأمني بين السلطة وقوات الاحتلال، الذي أوقفته السلطة بعد اجتياح قوات الاحتلال لجنين واستشهاد 10 فلسطينيين وإصابة عدد آخر. التنسيق الأمني بالنسبة للولايات المتحدة هو إحدى الوسائل لحماية إسرائيل، بغض النظر عن تداعياته على تماسك السلطة وإدراك الفلسطينيين لها، ولا سيما الأجيال الشابة التي باتت فاقدة للأمل، وليس أمامها سوى النضال، بطريقة مختلفة عن تلك التي التزمتها السلطة طوال العقدين الماضيين، ولم تسفر عن أي مؤشر إيجابي، لا حالي ولا مستقبلي.
لقد غابت حكمة فن الممكن عن المسؤولين الأميركيين، وغابت عنهم أيضاً القدرة على ممارسة نفس القدر من الضغط على الطرف الإسرائيلي الذي يتحمل المسؤولية كاملة عن فقدان الأمل، مصحوباً باليأس والتمرد على الواقع لدى قطاعات فلسطينية تتزايد يوماً بعد آخر، ومصحوباً أيضاً بالابتعاد عن السلطة ومواقفها والآيديولوجية المتحكمة في قرارتها. أميركياً، الأمر ليس فقط انحيازاً مفضوحاً ومتواتراً ومعروفاً لدى العقل السياسي الأميركي لكل الأطروحات الإسرائيلية بشأن القضية الفلسطينية تحديداً، بل أصبح عبئاً على إسرائيل نفسها، التي استثمرت هذا الانحياز المطلق في التحول التدريجي إلى حالة مليئة بالتناقضات القابلة للانفجار الذاتي، يتحدث عنه الإسرائيليون أنفسهم مشفوعاً بالخوف من المستقبل الذي قد لا يدوم إلا سنوات محدودة، يتحول بعدها الحلم الصهيوني إلى مجرد قصة تاريخية، تثبت سنة كونية تدركها البشرية الواعية بالتاريخ وتقلباته، فكل تطرف يأتي بعكسه، قد يحقق في مراحله الأولى بعض النجاحات، التي تغطي على العلل الهيكلية، ويوفر لها في الآن ذاته مزيداً من أسباب التعمق إلى حد الانفجار والاندثار.
تحولات المجتمع الإسرائيلي نحو سيادة اليمين المتطرف فكرياً وسياسياً حتى تجاه أقرانه من الإسرائيليين أنفسهم، وتجاه مؤسسات الكيان التي تباهت بها الولايات المتحدة والغرب منذ نشأته إلى الآن، ووفرت له صنوف الدعم وعدم المحاسبة، والإفلات من كل الضغوط السياسية والمعنوية، وتعامله كأحد أبعاد الأمن القومي الأميركي الذي يتطلب معاملة خاصة وفريدة مقارنة بكل الحلفاء، هي تحولات تمت بدعم وتأييد من المؤسسة السياسية الأميركية بكل مكوناتها طوال عمر المشروع الصهيوني. وما القلق الذي يبديه البيت الأبيض الآن على ما يوصف بالديمقراطية الإسرائيلية وانهيار أحد أسسها ممثلاً في فقدان استقلال القضاء، كما تخطط حكومة نتنياهو الحالية، إلى جانب التوسع في الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتسليح مئات الآلاف من المستوطنين ومنحهم حق استخدام السلاح ضد الفلسطينيين من دون محاسبة، والإجهاز عملياً على مبدأ حل الدولتين ليست إلا نتيجة مباشرة لسياسة الانحياز المطلق، التي تَشلْ يد أميركاً عمليا عن إنقاذ تلك «الديمقراطية» في الوقت المناسب. والواضح أن لا أحد في المؤسسة السياسية الأميركية يفكر في مراجعة تلك السياسة، حتى لو من قبيل حماية الكيان الإسرائيلي ذاته، ما يوفر له ذرائع أكثر للسير على طريق التآكل الذاتي.
وبينما يؤيد الرئيس بايدن مبدأ حل الدولتين، الذي يتمسك به الفلسطينيون والعرب، فإن ترجمة هذا التأييد إلى خطة عمل قابلة للتطبيق على الأرض، ليست في حسابات الرئيس بايدن وإدارته، سواء قبل الحرب في أوكرانيا، وقطعاً بعدها، حيث يحتل استنزاف روسيا ومحاصرة الصين والضغط المتتالي على إيران، أولويات الحركة الأميركية الخارجية، وإن اضطرت إلى تحرك في الشأن الفلسطيني، فلا يتجاوز مهمة التهدئة العابرة، بالتعاون مع فاعلين إقليميين، وإعلاء مقولة الأمن الإسرائيلي، ولا شيء بعد ذلك. وهي المحصلة التي تدفع اليمين المتطرف الإسرائيلي إلى مزيد من التطرف تجاه الفلسطينيين بالدرجة الأولى، وتجاه المشروع الصهيوني ذاته بالدرجة الثانية، ما يضع مخططات الدولة الدينية بلا فلسطينيين على المحك.
ويأتي تصريح نتنياهو بأن السلام مع الفلسطينيين لن يأتي إلا بعد انتشار السلام والتطبيع الشامل مع العرب، وفق صيغة السلام مقابل السلام، وبعدها يمكن إعطاء الفلسطينيين الحق في إدارة أنفسهم بأنفسهم، ما عدا الجانب الأمني الذي سيظل بيد إسرائيل، ما يعنى أن مبدأ الدولة الفلسطينية المستقلة قابلة للحياة ليس مطروحاً للنقاش أبداً، سواء أثناء عملية امتداد التطبيع بالمعنى الإسرائيلي، أو بعد التطبيع الشامل مع كل العرب الذي يبدو بعيد المنال جداً، ما يضع حل كلا الدولتين في عهدة التاريخ.