الإجابة:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فمن المقرر عند الأئمة أنه لا يجوز الأخذ بالأيسر من أقوال أهل العلم إذا كان مخالفًا لأحكام الشرع، وأن الواجب على جميع المسلمين إتباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ولا يعمل بقول أحد من أهل العلم إلا ما وافق الدليل، ويتأكد ذلك إن كان الموجب لاختيار التيسير هو ما وافق هوى النفس، وتتبع الرخص وليس قصد التدين.
قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، وقال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف:3]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ))؛ رواه أحمد والترمذي عن العرباض بن سارية، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال الإمام الشافعي: "واتفقوا أنه لا يحل لأحد قد استبانت له سنة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتركها لقول أحد كائناً من كان".
أما العامي فهو وإن كان مذهبه هو مذهب من يفتيه، إلا أنه يجب عليه أن يتبع ويختار الأعلم والأتقى والأورع من أهل العلم؛ فلا يجب عليه تقليد أحد بعينه.
وقد حذر أهل العلم من الأخذ بالأيسر بغير الضابط المذكور كالأمام الشاطبي في كتابه "الموافقات، وقد لخص كلامه صاحب كتاب "الفقه الإسلامي وأدلته" فقال (1/ 104-105): " وهو أنه يجب على المقلد الترجيح بين أقوال المذاهب بالأعلمية وغيرها، واتباع الدليل الأقوى، لأن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلدين كالأدلة المتعارضة بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف عند تعادل الأدلة، كذلك المقلد؛ ولأن الشريعة ترجع في الواقع إلى قول واحد، فليس للمقلد أن يتخير بين الأقوال، وإلا كان متبعاً غرضه وشهوته، والله تعالى يمنع اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
ثم أبان الشاطبي في كلام مسهب ما يترتب على مبدأ الأخذ بالأيسر من مفاسد:
أولها ـ الضلال في الفتوى بمحاباة القريب أو الصديق في تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة.
ثانيها ـ الادعاء بأن الاختلاف حجة على الجواز أو الإباحة، حتى شاع بين الناس الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم.
ثالثها ـ اتباع رخص المذاهب اعتماداً على مبدأ جواز الانتقال الكلي من مذهب إلى مذهب، وأخذاً بمبدأ اليسر الذي قامت عليه الشريعة مع أن الحنيفية السمحة أتى فيها السماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها، ثم ذكر بعض مفاسد اتباع رخص المذاهب كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، كالاستهانة بالدين إذ يصير سيَّالاً لا ينضبط، وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم، للجهل بأحكام المذاهب الأخرى، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك انضباط معيار العدالة بين الناس، وشيوع الفوضى والمظالم وضياع الحقوق وتعطيل الحدود واجتراء أهل الفساد، وكإفضاء ذلك إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها.
رابعها ـ التخلص من الأحكام الشرعية وإسقاطها جملة، عملاً بمبدأ الأخذ بأخف القولين، لا بأثقلهما، مع أن التكاليف كلها شاقة ثقيلة". اهـ.
إذا تقرر هذا؛ فالواجب على المسلم أن يأخذ ما صح من الأدلة عند البحث في حكم الإسلام في الموسيقا، كما هو الحال في بقية مسائل الشريعة.
أما الموسوعة الحرة (ويكيبديا) فليست المكان المناسب لمعرفة أحكام الشريعة، وما نقلته عن حكم الموسيقا فيها هو خطأ محض، ومخالف لما صح من الأدلة، ولكلام الأئمة المتبعين كالأربعة وغيرهم، فالقولُ بإباحتها قولٌ ضعيفٌ جدًّا، أو شاذٌّ لا يُلتفت إليه، وقد نقل الإجماع على تحريم سَماع المعازف القرطبي، وابن الصلاح، وأبو الطيب الطبري، وابن القيم، وابن رجبٍ الحنبلي، وابن حجر الهيتمي،
وغيرهم.
وقد ثبت تحريم آلات المعازِف بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]؛ روى شيخُ المفسِّرين الإمام الطبري عن عبدالله بن مسعود وهو يُسأل عن هذه الآية، فقال: "الغناء، والذي لا إله إلا هو"، يُردِّدها ثلاث مرات، وروي عن ابن عباس: "الغناء وأشباهه"، وعن جابر بن عبد الله قال: "هو الغناءُ والاستماع له"، ورُوِيَ عن مجاهدٍ قال: "هو الغناء أو الغناء منه، أو الاستماع له"، وعن عكرمة قال: "{لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]: الغناء".
أما السنة: فمنها ما رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزْم، عن أبي مالكٍ الأشعري رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (ليكونن مِن أمتي أقوامٌ، يستحلون الحِر، والحرير، والخمر، والمعازف)، وقوله يستحلون، ظاهر الدلالة في أنها حرامٌ، وسيأتي أناسٌ يصيرونها حلالًا، وهم بذلك آثمون مُعتدون.
وهذا الحديثُ مِن أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - حيث تضمن الإخبار عن غيبٍ قد وقع، وتضمن أيضًا أن المعازف حرامٌ؛ لدلالة كلمة يَسْتَحِلُّون، وهي لا تكون إلا للمُحَرَّم.
ومنها: ما رواه ابن ماجه وابن حبان عن أبي مالكٍ الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَيشربن ناسٌ من أمتي الخمر، يُسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير)؛ والحديث صححه الألباني في "غاية المرام" وغيره.
ومنها ما رواه البَزَّار في مسنده، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة، عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صوتان مَلْعونان في الدنيا والآخرة: مزمارٌ عند نعمةٍ، ورنةٌ عند مصيبةٍ)؛ قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواته ثقات، وصححه الألباني.
ومنها ما رواه الحاكم والبيهقي والترمذي مختصرًا، وحسَّنه، عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني لم أنه عن البكاء، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين؛ صوتٍ عند نغمة لهوٍ ولعبٍ، ومزامير الشيطان، وصوتٍ عند مصيبةٍ؛ لطْم وُجوهٍ، وشق جيوبٍ، ورنة شيطان)؛ والحديث حسنه الألباني رحمه الله.
ومنها ما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله حرَّم عليَّ - أو حرَّم - الخمر، والميسر، والكُوبة)، قال: (وكل مسكرٍ حرامٌ)، قال سفيان: فسألت علي بن بذيمة عن الكوبة؟ قال: "الطبل"؛ والحديث صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند، والألباني في السلسلة الصحيحة، وشعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند.
أما الإجماع: فقد انعقد إجماع العلماء قديمًا على تحريم استعمال آلات اللهو والمعازف إلا الدُّف، وممن حكى الإجماع الإمام القرطبي، وأبو الطيب الطبري، وابن الصلاح، وابن القيم، وابن رجبٍ الحنبلي، وابن حجرٍ الهيتمي.
قال القرطبي رحمه الله: "أما المزامير والأوتار والكوبة، فلا يختلف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحدٍ ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك، وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق، ومهيّج الشهوات، والفساد، والمجون؟ وما كان كذلك لم يشك في تحريمه، ولا تفسيق فاعله، وتأثيمه"؛ انتهى نقلًا عن (الزواجر عن اقتراف الكبائر) لابن حجر الهيتمي، وقال: "الكبيرة السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والأربعون والخمسون والحادية والخمسون بعد الأربعمائة ضرب وترٍ واستماعه، وزمرٌ بمزمارٍ واستماعه، وضربٌ بكوبةٍ واستماعه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة" - ردًّا على ابن مطهر الرافضي في نسبته إلى أهل السنة إباحة الملاهي-: "هذا من الكذب على الأئمة الأربعة، فإنهم متَّفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعُود ونحوه، ولو أتلفها متلفٌ عندهم لم يضمن صورة التالف، بل يحرم عندهم اتخاذها". اهـ.
وقال ابن الصلاح في الفتاوى: "وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعتْ، فاستماع ذلك حرامٌ عند أئمة المذاهب، وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبتْ عن أحدٍ ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع...، إلى أن قال: فإذًا هذا السماع غير مباحٍ بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين". اهـ.
وللعلماء في هذا المسألة مصنفاتٌ مشهورةٌ منها: "كف الرِّعاع عن مُحرمات اللهو والسماع" لابن حجرٍ الهيتمي، ومنها: "إغاثة اللهفان" لابن القيِّم، وله كتاب مستقل باسم: "الكلام على مسألة السماع" رسالةٌ مستقلةٌ، وكتاب "نزهة الأسماع في مسألة السماع"، وهو مطبوع ضمن مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي، وكتاب: "تحريم آلات الطرَب" للشيخ الألباني.
وعليه، فلا يجوز لك العمل بفتوى إباحة الموسيقا لمخالفتها للأدلة الصحيحة، وقياس ذلك على فتوى إباحة الشطاف في رمضان، غير صحيح؛ لأنه لا يوجد دليل صحيح على المنع من استعمال الشطاف للصائم، بخلاف مسألة السماع فالأدلة على التحريم كثيرة،، والله أعلم.