فرحة خضراء تعانق قلوب التونسيين مع كل موسم حصاد للقمح وتزيد مكانته قدسية لديهم، ولا يمر من دون احتفالات وعادات خاصة وطقوس معينة يمارسها المزارعون تبركاً بالمحصول، أو كما يسمى في شمال غربي البلاد "نعمة ربي".
على رغم انطلاق موسم الحصاد في تونس هذا العام تزامناً مع وضع استثنائي بالبلاد نظراً إلى الجفاف الذي تسبب بشح القمح والشعير، يعيش المزارعون في الريف طيلة سنة كاملة حالة يمتزج فيها إحساس الخوف بالأمل، انتظاراً لقدوم المحصول وبيعه بعد صبر طويل استمر على مدار فصول العام المتقلبة.
موسم الحصاد عند المزارعين عبارة عن موعد فرح، حيث يدعى له جميع أهل القرية، ويعد فيه الطعام بكرم وسخاء غير معهودين، ويصدح فيه بأغان شعبية التي تتغنى بسنابل القمح والشعير الذهبية، وفقاً للتقاليد الموروثة في أعماق تونس.
تكريم الأرض
تخرج النسوة منذ ساعات الفجر الأولى يعددن إفطار الصباح والخبز الساخن، فالعودة من الحقول المتناثرة على مساحات شاسعة لا تكون قبل الليل أحياناً. وهنا تقول كريمة "لدينا حقل صغير بمنطقة دقة في باجة شمال غربي تونس، ودائماً ما يكون موعد الحصاد مميزاً، يجتمع فيه كل أفراد العائلة لحصد محصول القمح الذي يكون عادة للاستعمال الخاص مع بيع الباقي إذا توفر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتمضي في حديثها "أغلب سكان الشمال الغربي يزرعون القمح والشعير كواجب يقومون به تجاه الأرض التي تعطيهم من نعمها".
أما "نزيهة" المزارعة في ربوع شمال تونس تروي في حديثها إلى "اندبندنت عربية" عن تحضيرات خاصة بموعد الحصاد فتقول "تتولى النسوة ويسموهن الحصادة فجراً يحضرن المؤونة وخبز الطابونة، أما الغداء والشاي فيتم إعداده على عين المكان في الحقل على الحطب وعادة ما يكون طبق الكسكسي بالخضروات ولحم الخروف باعتباره الطبق الرئيس الذي يملأ البطون، ويحلو الاجتماع حوله".
وتواصل نزيهة بقولها "أما وقت العمل فأهازيج الحصاد والتغني بسنابل القمح تكون حاضرة بقوة كامل اليوم لزيادة حماسة الحصادين وتشجيعهم على العطاء وأيضاً للترويح عنهم".
رحمة إلهية
الأكاديمي في الجامعة التونسية غفران حسايني يستعيد ذكرياته مع حصاد الحبوب بمسقط رأسه في نفزة بمحافظة باجة شمال غربي تونس "نحن في الغالب لا نسميه الحصاد بل نعتبرها كلمة بيروقراطية تصلح للتعبير الكتابي لتلاميذ المدارس أو أنها تضمن في تقرير لنشرة الأخبار، بل نردد (نلموا النعمة). إنها تبدو لنا أكثر حميمية وتعبيراً وتقديساً".
حسايني لم تنسه درجته العلمية تعلقه بأرض أجداده فلا يمضي موعد موسم الحصاد أو "لم النعمة" كما يسمونه من دون زيارة مسقط رأسه، إذ يروي "أنه تعبير عميق جداً عن حجم الشقاء طول العام من أجل جمع النعمة وتعبير الحب المقدس".
وتمثل الحبوب، أحد أهم قطاعات الزراعة في تونس، وتسهم بأكثر من 10 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وتستقطب ما يزيد على ثمانية في المئة من إجمالي الاستثمارات في الاقتصاد الوطني، وتشغل 16 في المئة من الأيدي العاملة النشطة.
ويواصل حسايني في حديث خاص "نحن أيضاً في الشمال الغربي لتونس لا نقول القمح والشعير إلا من باب التحديد الدقيق لنوعية الزرع، بل نقول في الغالب (النعمة)، لأننا نتعامل معها كرحمة إلهية نلمسها بأيدينا كأنها نزلت لتوها من السماء".
موعد روحاني
لا يزال قلب الأكاديمي في الجامعة التونسية متعلقاً بأرض أجداده فيقول "كان خالي عندما يزرع القمح في الأرض يقرأ سورة يس (القرآن الكريم)، وهو ينثر البذور في الأرض البنية اللون كأنها الشوق إلى الرحمة والخصب، وعندما يزور الأرض لا يدخلها متفقداً حتى يسلم على النعمة كأنه يسلم على البشر وأنا أيضاً تعلمت منه ذلك. فهي نعمة قريبة من رحمة الله فنزورها ونسلم عليها إجلالاً ولا تضع قدمك داخلها حتى تقول بسم الله".
ويضيف "حتى جدي الذي كان لا يقرأ ولا يكتب إذا كان يزرع القمح والشعير كان لا يبدأ الزرع إلا متوضأ بعد أن يصلي ركعتين وكان ينثر البذور ويتغنى ذكراً بدوياً قديماً عن قصص الأنبياء والتي حفظها في مجالس الذكر".
وعن جدته يقول "كانت إذا بدأ موسم زرع الأرض تطهي أكبر ديك ليكون وليمة واحتفالاً بموسم الحصاد"، مضيفاً "لقد رأيت وعايشت قداس جمع النعمة، فالأرض عندنا كالمسجد يمنع فيها الكلام البذيء والكذب والقسم كذباً وإن كان هزلاً. حدود الأرض كأنها حدود الحرم ما يجوز خارجه لا يجوز داخله".
وزاد "لا أبالغ فالصلاة في الأرض غالباً لا يستخدم فيها الماء لقلته بل تيمماً صعيداً طيباً وتمسحاً بوجه الأرض المباركة، والسجود لا يكون على سجاد بل على الأرض مباشرة تختلط ناصية وجهك بتراب أرضك وتهبك من ريحها".