على بعد مبنيين من ميناء غزة وأمتار قليلة تفصل عن شاطئ البحر، تسند الأعمدة الدائرية قباب 15 محلاً متلاصقاً تأخذ شكلاً هندسياً جذاباً، تفوح منها رائحة السمك التي تستطيع أن تجذب الزوار من دون أن ينهك البائع نفسه في الترويج لمأكولاته البحرية.
قبل أن يفتح البائعون أبواب محالهم يزورون ميناء غزة وينتظرون وصول المراكب التي لا يزيد عددها على 700 وتحمل على متنها ما جاد به البحر من رزق على صيادين قضوا ليلة طويلة في انتظاره.
في بحر غزة نحو 14 صنفاً من الأسماك، لكن الدائمة منها خمسة أنواع فقط، وخلال فصل الشتاء تظهر جميعها في السوق وأبرزها "السلطان إبراهيم واللوكس والوحوش والمليطة والقرش والتونة والسويسي والمرمير والسردين والسكمبلة والصروص والغزلان".
بين الميناء والحسبة
دقائق تمضي بعد الساعة السابعة صباحاً وتتكدس صناديق الأسماك على حافة رصيف ميناء غزة، تتسارع خطوات البائعين باتجاهها وتبدأ المنافسة على الشراء من خلال مزاد علني يعرف محلياً باسم "الدلالة".
على سمك السردين افتتح المزاد بسعر 50 دولاراً لصندوق يزن 11 كيلوغراماً، وباشر التجار في زيادة السعر، "ألا أونا، ألا دو، ألا تريه" كلمات نطق بها الدلال معلناً انتهاء المزاد بقيمة 70 دولاراً. يقول مصطفى الذي اشترى الكمية "من زمان لم يصل السردين إلى غزة بهذا الحجم ويستحق المبلغ وسيباع سريعاً ويحقق ربحاً".
يومياً يبحر أكثر من 3800 صياد في بحر غزة على مسافة تسعة أميال بحرية بحد أقصى ويجلبون معهم صناديق الأسماك، على رغم أن "اتفاق أوسلو" بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل حدد مسافة 20 ميلاً، لكن الصيادين لم يصلوا إلى تلك المسافة مطلقاً بسبب القيود.
فور انتهاء المزاد، نقل بائعو الأسماك الصناديق الممتلئة بالمأكولات البحرية إلى سوق السمك المركزية حيث تعرض حصراً الأسماك البحرية الطازجة، لكن سكان غزة لا يعترفون بهذا المسمى له، بل يطلقون عليه مصطلح "الحسبة".
عمر "الحسبة" تجاوز 30 سنة وما زالت تأخذ الطابع المعماري ذاته وتحافظ على مبانيها القديمة التي تضربها الرياح البحرية المالحة بشكل مستمر من دون أن تتهالك، فهي مشيدة من الطوب الأحمر القديم الذي لا تؤثر العوامل الجوية فيه.
على أرضية "الحسبة"، فرش البائعون العشب الأخضر الصناعي وبدأوا بعرض الأسماك استعداداً لاستقبال الزبائن، وبيده أخذ مصطفى يرش الأصناف الطازجة بالماء كي تظل خياشيمها رطبة بالدم فلا تتجمد وتبدو كأنها قديمة.
سنوياً يعرض في "الحسبة" أكثر من 6 آلاف طن من الأسماك، لكن الصيادين لم يتمكنوا من صيد سوى 4200 طن عام 2022، وفقاً لبيانات دائرة الثروة السمكية في وزارة الزراعة في غزة.
استفتاح
لبائعي السمك طقوس خاصة داخل الحسبة، إذ يضع كل واحد منهم كرسيه الخشبي القديم على باب محله ويجلس منتظراً زبونه وما إن يحقق بيعه الأول "يستفتح" يدخل كرسيه إلى محله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"استفتحت؟" صاح بها مصطفى إلى جاره يسأله إذا حقق بيعه الأول، حتى يتسنى له استقبال زبونه الجديد، يضيف بائع السمك "إذا جاءني زبون بعد الاستفتاح أنظر إلى بقية البائعين ومن لم يدخل كرسيه أرسله إليه، ولا يمكن لبائع داخل الحسبة أن يستقبل زبوناً مرتين قبل أن يتأكد من أن جميع البائعين استفتحوا، نعمل على هذه العادة منذ أعوام ولم تتغير".
يعتاش من قطاع الثروة السمكية أكثر من 70 ألف عامل منهم الصيادون وتجار البيع والموزعون وأصحاب المطاعم وعمالها، ويضاف إليهم العاملون في مجال صيانة القوارب وشباك الصيد إلى جانب المسؤولين الحكوميين الذين يشرفون على تنظيم المهنة.
أفحص الخياشيم أولاً
يعرف عشاق السمك الطازج أن الثامنة صباحاً أفضل موعد لشراء المأكولات البحرية، وعلى رغم أن العمل داخل "الحسبة" يستمر حتى ساعات المساء، إلا أن هذا التوقيت يعد أفضل موعد لاختيار المأكولات البحرية ذات المذاق اللذيذ.
فور وصول منير إلى الحسبة، يجول بعينيه على جميع الأسماك المعروضة قبل أن يبدأ بالشراء، عند عشب البائع مصطفى أخذ يتفقد بيديه سمك "الغزلان" وحجمه.
"كادت الغزلان تقفز من الصندوق" يقول منير في دلالة على أن السمك طازج ولم تمض ساعات على صيده. ويضيف "السمك كبير الحجم أفضل من الصغير، بخاصة في عملية الشواء على الفحم، معظم سكان غزة يشترون الحجم الكبير وفي الحقيقة هو أوفر للأسر الكبيرة وسعره يكون مناسباً جداً".
اختار منير أكثر من نوع سمك، كان "الجرع" نوعه المفضل وأخذ يقلبها، تارة يفتح خياشيم السمك يفحص الدم، وأخرى يزن حجمها من خلال رفعها بيديه، يوضح أن "الخياشيم يجب أن يكون لونها أحمر فاتحاً وليس بنياً، حتى تكون صيد اليوم وطازجة، وهذا الاختبار أساسي ويعد من عادات وتقاليد شراء المأكولات البحرية".
يحب منير أيضاً تناول الجمبري، والحباري يعرف محلياً بـ"الأقلام"، وهذه الأنواع نادراً ما تتوافر في غزة، لذلك يضطر العاملون في المجال إلى استيرادها لكن تكون مجمدة، يؤكد منير أن طعمها يكون اختلف ولا يوجد أفضل من صيد البحر.
يأكل منير سنوياً كيلوغرامين من السمك ولا تختلف تلك الكمية التي يتناولها عن بقية السكان، ليس لارتفاع السعر، بل لأن كمية المتوافر في غزة قليلة، ويعد هذا الحد أقل بكثير مما حددته منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة (فاو) ويقدر بنحو 13 كيلوغراماً للفرد الواحد.
وفقاً لدائرة الثروة السمكية فإن هناك فجوة بين المصيد البحري واستهلاك الفرد ولتعويض ذلك جرى تدشين أحواض استزراع سمكي. يقول مدير الدائرة وليد ثابت "كل عام تقل كمية صيد الأسماك من داخل البحر نتيجة الصيد الجائر والتغير المناخي والحصار".
وبحسب مقياس "فاو" فإن قطاع غزة يحتاج إلى نحو 26 ألف طن من الأسماك، ويوضح ثابت أن غزة توجهت إلى استيراد الأسماك المجمدة والمبردة لسد العجز وتوجهت إلى الاستزراع السمكي، وعلى رغم ذلك فإن الكمية المنتجة لا تكفي حاجات السكان.
سمك في الشوارع
انتهى اليوم بالنسبة إلى بائع السمك مصطفى ولم يتمكن من بيع الكمية التي اشتراها داخل ميناء غزة، لكنه لم يصب باليأس، إذ جلب عربة الكارو التي يجرها حيوان ووضع صناديق الأسماك عليها متجولاً بها في شوارع الأحياء السكنية.
"يلا التازة، يلا سمك البحر" أخذ مصطفى ينادي على سمكه، فهو يرغب في الوصول إلى الزبائن ولم يصطحب البائع كل الكمية التي يملكها، بل افترش جزءاً منها في "بسطة" على شارع البحر لعله يجد من يشتريها.