«حزب الله» من «الدويلة» إلى «دولة خارج الدولة»

منذ 1 سنة 148

دفعني لكتابة هذه الأسطر نقاش ممتع مع شخصية مخضرمة شغلت مناصب عليا كثيرة، كان محوره القوى السياسية التي باتت جزءاً من النظام لكنها تعمل خارجه.

منذ تأسيس الكيان، شهد لبنان أزمات كبرى، كان قاسمها المشترك الخروج عن الدولة الوطنية الشرعية. بدأت الأزمات هذه بأحداث عام 1958 بين التيارات الناصرية المؤيدة للوحدة العربية والرئيس كميل شمعون، عندما رفض قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الغربية التي هاجمت مصر خلال أزمة السويس، وتقربه من «حلف بغداد» الذي اعتبره عبد الناصر تهديداً للعالم العربي. أدى ذلك إلى تمرد إسلامي مسلح في أول خروج عن الشرعية، ودفع شمعون إلى طلب المساعدة الأميركية، ما مهَّد وصول فؤاد شهاب إلى سدة الرئاسة.

المحطة الثانية كانت بعد هزيمة 1967 المدوية أمام إسرائيل، وولادة المقاومة الفلسطينية، وتوقيع لبنان اتفاق القاهرة 1969. تصاعد نفوذ «منظمة التحرير الفلسطينية» على الحياة السياسية اللبنانية، بدعم سني ويساري واضح. وشهدت البلاد اضطرابات مسلحة مع الفلسطينيين وأزمات حكومية وتظاهرات حاشدة. نشأ ما عرف حينها بـ«دولة الفاكهاني» الفلسطينية التي شقّت الطريق أمام متاهة «الدولة داخل الدولة» التي سيعاني منها لبنان طويلاً مع اختلاف أربابها.

المحطة الثالثة جاءت نتيجة تصاعد النفوذ الفلسطيني، واندلاع الحرب الأهلية سنة 1975، والتي قسمت البلاد لشطرين: واحد تسيطر عليه الأحزاب والميليشيات المسيحية وبات له عسكره وإدارته وماليته، وثانٍ تسيطر عليه «منظمة التحرير الفلسطينية» والأحزاب والقوى اليسارية والإسلامية التي عُرفت حينها بـ«القوى الوطنية». وإذا كانت بذرة «الدولة داخل الدولة» موجودة أساساً في الشطر الأول، تكرست في الشطر الثاني، مع بروز ظاهرة بشير الجميل وإلغائه للأطراف المسيحية الأخرى، بحجة توحيد البندقية المسيحية. ما جرى آنذاك كاد أن يكون أول محاولة للخروج من النظام السياسي اللبناني أو الانقلاب عليه. لكن الجميل ما لبث أن غيّر مساره وعاد إلى حظيرة النظام، مطالباً بتحرير الـ10452 كيلومتراً، أي لبنان كله، وترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، وفاز بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.

المحطة الرابعة كانت انقلاب العماد ميشال عون، بعد تعيينه رئيساً للحكومة من قبل الرئيس المنتهية ولايته أمين الجميل. انقلب عون على النظام وحلّ مجلس النواب، وشكّل يومها ظاهرة شعبية تنادي بعناوين عريضة إنما غير واضحة المضامين والأهداف. وتمادى في انقلابه على النظام عندما رفض «اتفاق الطائف» وتسليم الرئيس المنتخب رينيه معوض. تم التغلب على ظاهرة عون بتوافق سوري- أميركي، فدخلت القوات السورية المناطق المسيحية، ووصلت إلى وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، واتخذ النظام السوري من «اتفاق الطائف» ستاراً لفرض هيمنته وسيطرته على شؤون البلاد حتى عام 2005.

ظاهرتا بشير الجميل وميشال عون كانتا أول محاولتين فعليتين للخروج عن النظام؛ الأولى تراجع عنها مطلقها، والثانية أُجهضت بفعل التوافق الدولي- الإقليمي، وتلزيم أمر لبنان إلى سوريا.

المحطة الخامسة هي التي نعيشها، وتعد الأكثر خطورة؛ لأن الخارج عن النظام فيها هو طرف خارجي- محلي، يعتمد سردية تقول إنه وُلد من صلب بيئة لبنانية تعاني من التهميش والحرمان؛ لكن «دايته» الفعلية هي إيران التي خلقته لتنفيذ مشروعها التوسعي في المنطقة المسمى «تصدير الثورة». هو إذن حزب لبناني بطموحات غير لبنانية تعارض طموحات أغلب اللبنانيين. بدأ «حزب الله» الانخراط في الحياة السياسية عندما دخل الانتخابات التشريعية عام 1992، وفاز بـ12 مقعداً، وعزز بعدها وجوده السياسي بمشاركته في كل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005، متراجعاً عن رفضه لدولة «اتفاق الطائف»؛ لكنه في الوقت عينه طوّر أساليبه كي يبقى داخل النظام وخارجه في الوقت نفسه. لذلك، لطالما رفض الحزب الخوض جدياً في إصلاح نظام الحكم الضعيف وغير الفعّال في لبنان لكي يبقي هيمنته عليه.

والحق يُقال، لم تكن بقية الأطراف السياسية جدية أيضاً بشأن الإصلاح السياسي؛ لكن الفارق بين الاثنين محوري؛ إذ إن الحزب يستغل النظام لأسباب آيديولوجية، بينما يستغله الآخرون لمصالح شخصية ضيقة. وسّع «حزب الله» دور سلاحه غير الشرعي من التحرير إلى الحماية والدفاع، موطّناً سلاحه داخل بنية الدولة ضمن وظيفة مستدامة لا تنتهي. وبفعل فائض القوة العسكرية المغلّفة «بالحماية والدفاع»، وبفعل تستره «بلبنانيته» وتفرّده بتمثيل مكون أساسي في البلاد، وباستغلاله التوافقية الطائفية، وبتغييب الرئيس رفيق الحريري جسدياً الذي كان يعمل على تحقيق توازن مسيحي- سني مع الحزب، وبحصوله بعد ذلك على التغطية المسيحية عبر تفاهمه مع «التيار الوطني الحر»، سيطر عبر سلسلة من الانقلابات على مؤسسات الدولة كافة (رئاسة الجمهورية والبرلمان والحكومة) وقوّض أو همّش تلك التي لم يتمكن من الهيمنة عليها بشكل مطلق، كالقضاء والأجهزة الأمنية والجيش. وبات يطلق عليه «دويلة داخل الدولة».

النجاح الأكبر الذي حققه «حزب الله» في خروجه عن النظام اللبناني هو جعل المجتمع أكثر طائفية: عاد المسيحيون إلى قوقعتهم، وتتعالى اليوم بينهم الدعوات للخروج من النظام عبر «الفيديرلة» وربما التقسيم، وحوّل السنة إلى طائفة بعد أن كانوا في موقع يتماهى مع الدولة والمؤسسات، وخطف الشيعة إلى خارج الحدود ليجعل منهم جزءاً من دولة ولاية الفقيه.

بعد عام 2011، ضرب «حزب الله» عرض الحائط بما تبقى من سياسة خارجية رسمية للدولة ومصالحها العليا، عندما تدخل في الصراعات الإقليمية، وعزز أنشطته الاستخباراتية على مستوى دول العالم، مفاقماً تفكك الدولة وفشلها. واستغل الأزمة الاقتصادية المالية الأخيرة ليجذّر خلالها شبكات اقتصادية ومالية واجتماعية وصحية موازية لشبكات الدولة؛ بل تفوقها قدرة وتنظيماً. كل ذلك غيّر كينونته من «دويلة داخل الدولة» إلى «دولة خارج الدولة»، يشارك في نظامها ويحاصرها لإبقائها ضعيفة لكنه يعمل خارجها.

المعضلة العصية على الحل تكمن في قواعد النظام التي تصب لصالح الحزب المهيمن عليه، والأطراف الداخلية عاجزة عن المقاومة من خارج النظام، بفعل ارتباطه بمحاور إقليمية وتفوق قوته العسكرية على القوى المسلحة الشرعية وغير الشرعية المتوفرة لدى الأحزاب.

الحل المتبقي إنما الصعب هو اجتراح مخارج تصل معها مختلف المكونات السياسية إلى قناعات مشتركة حول الهوية اللبنانيّة، ودور لبنان الإقليمي والدولي، ويصبح بعدها النظام السياسي مشكلة تقنية، وهو ما يشبه «حلم ليلة صيف» كما يقال.