من غير اللائق القول بأن الحرب لها فوائد، بخاصة عندما تكون الحرب لا تزال مشتعلة، ويسقط يومياً عشرات الضحايا من المواطنين السودانيين المنتمين للطرفين، ويسقط معهم أيضاً عشرات المدنيين المسالمين، وفي كل صباح يحسب الناس الخطوات التي قطعها السودان في طريقه للوراء بمتوالية هندسية، فقد تم تدمير البنيات الأساسية والمرافق الخدمية والمؤسسات الصناعية والإنتاجية والمصرفية والعلاجية... إلخ. في ظل استمرار الحرب فإن أي قول مثل هذا يفتقد الحساسية اللازمة والمطلوبة.
لكن يمكن القول إن وسط هذا الخراب هناك دروسا وعبرا، وتجارب واضحة وصريحة حول الحرب وآثارها، يمكن الاستفادة منها ومن ثم البناء عليها، ومن أهم الدروس مواجهة النفس بالحقائق المجردة كما عكستها بيئة الحرب، ومحاولة قراءة التغيرات والملامح في الواقع كما هو، وليس كما نتمناه.
هناك وصف ثابت للمجتمع السوداني بأنه مجتمع مسالم ومتسامح ولا يميل للعنف، هذه الصورة ظلت مسيطرة على الذهن السوداني لدرجة يمكن وصف كل من ناهضها بالهرطقة والخيانة والخروج على قيم الأمة. يحدث هذا رغم أن السودان ظل في حالة حروب أهلية مستمرة منذ عام 1955 حتى تاريخه، مع فترات استراحة قصيرة نتيجة لاتفاق سلام لا يعمر طويلاً. وحتى عندما طالت فترة الهدنة نتيجة لاتفاق أديس أبابا عام 1971 مع حركة الأنانيا المتمردة في الجنوب واستمرت عشر سنوات، عاد الرئيس الأسبق جعفر نميري لينقض غزله ويتنكر للاتفاقية التي صنعها، فاشتعلت الحرب من جديد عام 1983.
في بداية سنوات حكومة الإنقاذ في مطلع التسعينات، كتب الأديب السوداني الكبير الطيب صالح، في زاويته الثابتة في أخيرة مجلة «المجلة» مقالاً شهيراً، حفظه السودانيون وما زالوا يرددونه، عنوانه «من أين جاء هؤلاء؟»، تحدث فيه بلغته الأدبية الرفيعة عن الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها حكومة الإنقاذ ضد المواطنين السودانيين والقمع المفرط وممارسات التعذيب البشعة ضد المعارضين، وتساءل من أين جاء هؤلاء بمرجعية أن ما يقومون به لا يشبه السودان والسودانيين.
في رد غير مباشر، وفي نفس الفترة، قدم المفكر والكاتب السوداني الراحل عبد الله بولا ورقة في مؤتمر لحقوق الإنسان أسماها «في شجرة نسب الغول: كون أن الغول لم يهبط علينا من السماء». وواضح من عنوان الورقة أن الدكتور بولا يشير إلى أن جذور العنف موجودة في المجتمع السوداني ولم تهبط من السماء، ومن الأفضل مواجهتها ومعالجتها بدلاً من إنكارها.
ظهرت حالة الإنكار هذه مرة أخرى مع انتشار الانتهاكات الواسعة لقوات الدعم السريع ضد المواطنين المدنيين من سلب ونهب لممتلكاتهم وسياراتهم ومنازلهم ووقوع حالات عنف جسدي ضد النساء، وحدوث حالات نهب جماعي من مواطنين للمصانع والمحلات التجارية والبنوك. فالكل يحاول إقناع الكل أن من يمارسون هذه الممارسات هم من الأجانب الذين تستضيفهم البلاد، أو مقاتلي الدعم السريع من عرب أفريقيا. أكثر من ذلك فإن الحرب الدائرة الآن بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع تسمى لدى المصادر الحكومية «الغزو الأجنبي» أو المؤامرة الإمبريالية الصهيونية ضد السودان.
حقائق الواقع تقول إن القوام الأساسي لقوات الدعم السريع من القبائل السودانية، كما أن هذه الممارسات كانت تتم في دارفور حين كانت قوات الدعم السريع هي القوة الضاربة للحكومة السابقة، وتم التواطؤ بالسكوت عن هذه الممارسات من الإعلام الحكومي ومؤيديه. أضف إلى ذلك أن بعض هذه الممارسات وقعت من بعض وحدات الجيش، إلى جانب أن هناك سجلاً من مثل هذه الانتهاكات من الجيش السوداني في حرب الجنوب.
حدثت للسودانيين صدمة مماثلة من تداعيات وممارسات اقتصاد الحرب الذي يعايشه سكان الوسط والشمال للمرة الأولى. صحيح أن هناك كثيراً من الممارسات الإيجابية مثل احتضان الأسر الممتدة لأفراد الأسر في منازلهم ودعم المجتمعات المحلية لمراكز النزوح في المدن المختلفة، إلا أن كثيراً من المدن التي نزح إليها سكان الخرطوم ارتفعت فيها أسعار إيجار المنازل والشقق لأكثر من 400 في المائة، كما ارتفعت أسعار تذاكر المواصلات الداخلية بين المدن بدرجات مماثلة، بجانب المضاربات الكبيرة في أسعار السلع، وهذا وضع طبيعي بالتأكيد في كل المجتمعات التي خاضت تجربة الحرب، لكنه بدا مفاجئاً لكثير من السودانيين بحسب منظومة القيم والتقاليد التي يعرفون بها أنفسهم.
رغم قساوة الحرب وبشاعتها فإن أهم دروسها هو تكسير بعض الأوهام المتصورة عن الذات وعن الآخرين، فهي تتيح الفرصة للأمم والشعوب لينظروا إلى أنفسهم في مرآة الواقع، ويتعرفوا على أنفسهم في ظروف مختلفة، من ثم تتكون صورة واقعية عن المجتمع بكل إيجابياته وسلبياته. هي إذن فرصة متاحة، قد يتم الاستفادة منها، وقد تمضي مثل كثير من الفرص الضائعة في تاريخ الشعوب، وما أكثرها.