إنه الرابط الروحي والجسدي البدائي بين الأم ووليدها، حين تشكل أوقات الإرضاع جسراً من الثقة والأمان للطفل، وهو يتلقى جرعات الحياة على شكل حليب. الحليب ذلك السائل الذي يشكل غذاءنا الأول. نمسك بأثداء أمهاتنا للشعور أننا لن نجوع، ونتلقف تلك القطرات النقية المليئة بالحب والرعاية والحنان، فيصبح حليب الأم رمزاً للحياة والعطاء، فهو ليس مجرد مصدر غذائي مليء بالفوائد الصحية، بل رابط روحي بين الأم وطفلها، يشعر الطفل بالأمان والاستقرار، ليبدأ رحلته في الحياة بثقة، بعد أن يعزز حليب الأم جهازه المناعي، ويحميه من الأمراض.
حليب الحيوانات
كالبشر تلد أنثى الحيوانات الثدييات، ويفتح صغيرها فاهه باحثاً عن لقمته الأولى، هذا الانتقال من رحم أمومة الكائنات إلى الحياة يسنده هذا السائل الحليبي بكل ما أوتي من فيتامينات، فهو يحتوي على البروتين والكالسيوم والفوسفور والمعادن الأخرى الضرورية لصحة العظام والأسنان والعضلات والجهاز العصبي، كما أنه يحتوي على مضادات الأكسدة التي تساعد على حماية الجسم من الأمراض.
استعاض الناس في حال عدم قدرة الأم البشرية على إرضاع طفلها بحليب الماشية كالبقر والغنم والماعز والجاموس والإبل، وبعض الحيوانات الأخرى كالحمير والجياد والغزلان وغيرها بحسب الثقافات والبلدان.
وحفظ الحليب بأنواعه في عبوات من الكرتون المغلف، والقوارير المعدنية والبلاستيكية والزجاجية للبيع على رفوف محال المواد الغذائية والصيدليات، كما خضع الحليب للتصنيع في المعامل لنزع الدسم بشكل جزئي أو كلي، أو لجعله خالياً من اللاكتوز، وانتشرت أنواع كثيرة من حليب البودرة لعلامات تجارية لا تحصى. حليب البودرة هذا دخلت إليه تركيبات متعددة لتتناغم مع حليب الأم بتراكيب مختلفة، لتناسب الأطفال الذين قد لا يحظون بالرضاعة الطبيعية أو لديهم حساسية معينة.
الحليب النباتي
لطالما سمينا المادة البيضاء التي تخرج من بعض النباتات والفاكهة بالحليب، حتى إن واحدة من النباتات البرية تسمى "حلبلبون" تؤكل مثل الهندباء، وتفرز مادة حليبية. ومن سنحت له فرصة قطاف التين عن الشجر سيجد مكان القطف سائلاً حليبياً، لكن قصة الحليب النباتي مختلفة، فهو حليب، إن صحت تسميته بالحليب، أو مشروب يستخرج من الحبوب كالصويا والشوفان والرز وأنواع المكسرات كاللوز والجوز والكاجو وغيرها.
راح الحليب الجديد يزيح الحليب الحيواني عن الرفوف ويتصدر المشهد. وعلى رغم أن حليب الصويا المستخرج من فول الصويا يعتقد أنه كان جزءاً من النظام الغذائي في الصين منذ ما يقرب من 2000 سنة، فإن التجارب التجارية لإنتاجه في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وشهد استخدامه تزايداً في العقود الأخيرة بسبب زيادة الاهتمام بالنظام الغذائي النباتي والبدائل الصحية لمنتجات الألبان.
حتى أصبح حليب الصويا وإخوته من أنواع الحليب المستخرج من الحبوب والمكسرات يعد أحد أكثر بدائل الحليب التقليدي شيوعاً وانتشاراً حول العالم، في معظم الأسواق والبقالات، ويمكن استخدامه بالطريقة نفسها التي يستخدم بها حليب الحيوانات الآخر.
وفي إحصائيات حول عدد مستخدمي حليب الصويا والحبوب الأخرى والمكسرات، بحسب دراسة أجرتها شركة الأبحاث Mintel في عام 2020، تحت عنوان "اتجاهات المستهلكين الأميركية: منتجات الألبان البديلة" فإن عدد الأشخاص الذين يتناولون حليب الصويا في الولايات المتحدة ارتفع بنسبة 61 في المئة منذ عام 2014.
ومن المتوقع أن تصل سوق بدائل الألبان في أميركا الشمالية إلى 8.2 مليار دولار أميركي بحلول عام 2024، إذ تشهد معدل نمو سنوي مركب قدره 9.57 في المئة خلال الفترة المتوقعة من عام (2020 إلى 2025) بحسب تقرير نشره موقع Mordor Intelligence.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فوائد صحية
في دراسة عن حليب الصويا، أجريت في جامعة أوساكا باليابان عام 2014، شملت 100 شخص يعانون ارتفاع الكوليسترول، قسم المشاركون إلى مجموعتين، تناولت مجموعة حليب الصويا لمدة 12 أسبوعاً، بينما تناولت الأخرى حليب البقر. وجاءت النتيجة أن المجموعة التي تناولت حليب الصويا شهدت انخفاضاً بنسبة 12 في المئة في مستويات الكوليسترول الكلي، وانخفاضاً بنسبة 16 في المئة في مستويات الدهون الثلاثية.
وفي جامعة كاليفورنيا، سان دييغو، أجريت دراسة عام 2015 عن حليب اللوز، شملت 100 شخص يعانون ارتفاع ضغط الدم. وجد الباحثون أن المجموعة التي تناولت حليب اللوز شهدت انخفاضاً بنسبة سبعة في المئة في ضغط الدم الانقباضي، وبنسبة خمسة في المئة في ضغط الدم الانبساطي.
تقول اختصاصية التغذية علا أبو شقرا لـ"اندبندنت عربية" إن الحليب الحيواني بخاصة حليب البقر معروف بغناه بالبروتين والفيتامينات والمعادن الأساسية للجسم بخاصة الكالسيوم والفيتامين "د" والفيتامين "أ". إلا أن السنوات الأخيرة بينت وبكثرة مظاهر استهلاك الحليب النباتي، الذي بدأ يملأ رفوف المحال، ويتزايد الإقبال عليه على رغم عدم توافر جميع الأنواع دائماً، مثل حليب الصويا واللوز والشوفان والرز والكينوا والبازلاء والكاجو وجوز الهند وغيرها.
وعن كونه بديلاً صحياً للحليب الحيواني، تجيب بأن الأمر يستند إلى العوامل الصحية للشخص، فإذا كان الشخص يعاني حساسية من الحليب أو عدم تحمل اللاكتوز أو يعاني القولون العصبي (نفخة، غازات...) أو إذا كان الشخص لا يستسيغ طعم الحليب الحيواني، يكون الحليب النباتي الخيار الأفضل.
وتشدد على أن جودة الحليب النباتي تختلف بحسب المغذيات التي يحتويها، فبعض أنواع الحليب النباتي تحتوي على البروتينات والفيتامينات والمعادن نفسها التي يحتوي عليها الحليب الحيواني، فكل كوب 250 مل من كل أنواع من الحليب التالية يحتوي على:
الحليب البقري: 120 سعرة حرارية (في حال كان قليل الدسم، وتجدر الإشارة إلى أن نسبة البروتين لا تختلف بين الحليب الكامل أو قليل أو خالي الدسم). دهون: 4.8 غرام. بروتين: ثمانية غرامات. نشويات (سكر الحليب): 12 غراماً.
حليب الشوفان: 115 سعرة حرارية. دهون: 3.8 – 4 غرامات. بروتين: 0.75 غرام. نشويات: 18 غراماً.
حليب الأرز: 115 سعرة حرارية. دهون: 2.5 غرام. بروتين: 0.25 غرام. نشويات: 24 غراماً.
حليب جوز الهند: 35 سعرة. دهون: ثلاثة غرامات. بروتين: 0.25 غرام. نشويات: صفر.
حليب الصويا: 83 سعرة. دهون: أربعة غرامات. بروتين: ثمانية غرامات. نشويات: ثلاثة غرامات.
حليب اللوز: 60 سعرة. دهون: ثلاثة غرامات. بروتين: 1.25 غرام. نشويات: سبعة غرامات.
وبذلك تقول علا نجد أن الحليب الأقرب إلى الحليب البقري بمحتواه البروتيني والدهني هو حليب الصويا. علماً أن بعض الدراسات أشارت إلى صلة بين حليب الصويا وسرطان الثدي أو اضطرابات الغدد نظراً إلى وجود "أيسوفلافونات"، وهي نوع من الأوسترجين النباتي الذي يشبه الأوسترجين البشري، إلا أن الدراسات ليست كافية حتى اليوم. وتضيف "كما لدى بعض الأشخاص حساسية من مادة الصويا أو اللوز، بخاصة النساء. وقد ربطت بعض الدراسات ارتفاع سرطان المبيض أو تزايد حالات ترقق العظام في حال تناول الحليب البقري بكثرة، إلا أن هذه الدراسات أيضاً ليست كافية بعد".
لذا تنصح علا بتناول الحليب بحسب حالة الشخص الصحية، وبحسب تفضيله الطعم. وتقول "بغض النظر عن النوع يجب الاعتدال بالكميات، والأخذ في الاعتبار أهمية قراءة الملصق الغذائي لمعرفة كمية الفيتامينات والمعادن، ثم أخذ بعض الفيتامينات في حال تناول أنواع الحليب النباتي الفقيرة بالمغذيات".
رفقاً بالحيوانات
وفي حين يكون قرار تناول الحليب النباتي لأسباب صحية، إلا أن الأمر يختلف مع النباتيين والذين لا يأكلون أي مشتقات حيوانية، إذ يعد الأمر أخلاقياً، على اعتبار أن من يتناول حليب الماشية إنما يسرق هذا الحليب من طفل هذه الماشية، الذي يعد الأحق بحليب أمه من جهة، أو بسبب إخضاع الحيوانات لظروف معيشية صعبة تتنافى مع الطبيعة للحصول على أكبر قدر ممكن من الحليب إن من حيث التغذية أو من حيث طريقة الحلب "استخراج الحليب" بالآلات.
تقول نانسي إنها لا تفهم كيف يمكن أصلاً ذبح الحيوانات لتناولها، وبأي حق نقوم بذلك، إنه استقواء على كائنات ضعيفة، نربيها ونشرب حليبها بدلاً من أن نتركه لصغارها ثم نذبحها ونتلذذ بلحمها، وتعتبر أن الموضوع غير إنساني البتة. تتناول نانسي وعائلتها "لحم" الصويا وهي حبوب صويا طعمها قريب من اللحم، وتشرب مستخلصات الحبوب التي تصنعها في البيت من اللوز والشوفان والكاجو.
من جهته يقول علي الخطيب إنه توقف عن تناول اللحوم عندما كان في الثامنة من العمر، بعد أن أتى أهله بعنزة فبدأ يلعب معها ويطعمها، وتعلق بها، لكنها ذبحت أمامه يوم العيد، فشكل الأمر صدمة له، وبكى لأيام، وتوقف عن تناول اللحوم. ويخبر أنه من الممكن شرب الحليب الحيواني إذا كان متأكداً أنه فائض عن طعام صغار الحيوانات فقط، لذا فهو لا يشتري أي منتج حيواني من البقالات، كي لا يدعم أي إساءة في حق حيوان.
تشير دراسة أجرتها جامعة أكسفورد في عام 2018 إلى أن عدد النباتيين في العالم يقدر بنحو 750 مليون شخص، أو 11 في المئة من سكان العالم. من المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 1.4 مليار شخص بحلول عام 2050. وتأتي الهند في المرتبة الأولى حيث يقدر عددهم بنحو 400 مليون شخص، تليها الصين في المرتبة الثانية بنحو 100 مليون شخص، فالولايات المتحدة الأميركية بنحو 70 مليون شخص.
من المتوقع أن يستمر عدد النباتيين في العالم في النمو في السنوات المقبلة. وهناك عديد من العوامل التي تسهم في هذا النمو، بما في ذلك زيادة الوعي بالقضايا الأخلاقية والصحية والبيئية المتعلقة بإنتاج اللحوم. علماً أن عدداً كبيراً من النباتيين يتناولون المنتجات الحيوانية دون لحومها.