حرب أوكرانيا... هل من نهاية في الأفق؟

منذ 1 سنة 240

بعد تفكك الاتحاد السوفياتي علقت في ذاكرتي كلمات للأستاذ في جامعة هارفرد ستانلي هوفمان الذي درس العلوم السياسية في باريس وحصل على الدكتوراه في القانون من جامعة باريس، إذ قال إن الحروب مستقبلاً لن تكون بين الدول وإنما ستجري في داخل الدول، بمعنى ستأخذ شكل الحروب الأهلية. وهذا صحيح، بدليل ما حدث في الفترة اللاحقة لانهيار الاتحاد السوفياتي حيث عادت الصراعات والحروب المباشرة مجدداً بين الدول، وبلغت ذروتها باجتياح الروس لأوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022.
الشيء الوحيد والجديد نسبياً والذي لا يذكَر أن الحرب في أوكرانيا ليست الأولى التي تجري عملياتها في الأراضي الأوروبية، إذ يتم تناسي ما حدث خاصة في حرب «الناتو» ضد صربيا ونظام الرئيس ميلوسوفيتش. والجديد الآن في أزمة أوكرانيا أنها للمرة الأولى التي يسود فيها قلق عالمي من إمكان حدوث حرب عالمية ثالثة بسبب أن أربعة أطراف في الحرب الأوكرانية هي دول نووية؛ روسيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا. فروسيا، كما تؤكد بحق، تعتبر أن الصراع ليس بينها وبين أوكرانيا، بل هي حرب بين روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، من دون ذكر فرنسا بالاسم. ومع مرور عام منذ اندلاع حرب أوكرانيا، بات واضحاً ما كان شبه مخفيّ لا يُعبّر عنه صراحة؛ وهو أن الصراع أيضاً يدور حول تشكل نظام دولي جديد لا تتحكم في إدارته وترتيب ملامحه الدول الغربية، بل نظام يسعى إلى إرساء تعددية الأقطاب وظهور دول إقليمية تريد رسم ملامح مستقبل مناطقهم بأنفسهم بالخروج من عباءة ووصايا الدول الكبرى. إلى جانب هذا التوجه، هناك توجه آخر تسعى الإمبراطوريات السابقة لإحياء نفوذها في المناطق التي كانت تقع تحت قبضتها؛ مثل الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية الصينية بسعيها الحثيث إلى استعادة أجزاء من أراضيها السيادية بعودة تايوان، كما استرجعت سِلماً هونغ كونغ وماكاو من بريطانيا والبرتغال. وأظهرت حرب أوكرانيا أنها صرفت الأنظار في الحرب المخفية بين الولايات المتحدة والصين اللذين يشكلان المواجهة الخطِرة والتحدي الأكبر للولايات المتحدة من صراعها مع روسيا؛ لأن الصين هي القوة الكبرى الصاعدة المهدِّدة لعودة تبوء الغرب لمسرح العلاقات الدولية. ولهذا تكرِّس الولايات المتحدة في هذه المرحلة اهتمامها بالحرب الأوكرانية لاستنزاف روسيا وإضعاف قدراتها العسكرية، دون حاجة إلى التضحية بأرواح جنود أميركيين في مواجهتها وتستفيد، في آن واحد، قطاعاتها الصناعية العسكرية عبر تلبية احتياجاتها المباشرة أو احتياجات حلفائها من الأسلحة والذخائر الأمريكية. من هنا جاءت أولويات السياسة الأمريكية حالياً في مواجهة روسيا في الأزمة الأوكرانية عبر تكثيف مساعداتها المالية والعسكرية التي تجاوزت حتى الآن 30 مليار دولار لتتفرغ لاحقاً في مواجهة الصين؛ لأنه يصعب عليها خوض مواجهتين كبيرتين في آن واحد، ضد روسيا والصين.
وفي الجانب الآخر فإن أوروبا رغم موقفها المشترك مع الولايات المتحدة في الوقوف ضد اجتياح روسيا لأوكرانيا، فإن مواقفها متباينة بين دول البلطيق والجناح الشرقي لأوروبا، والتي كانت سابقاً جزءاً من حلف وارسو في عهد الاتحاد السوفياتي، وعمدت إلى تأكيد موقفها مجدداً في اجتماع بوخارست في يوم الأربعاء الماضي 22 فبراير. وتختلف مواقف تلك الدول عن الثنائي الأوروبي فرنسا وألمانيا اللذين رغم دعمهما لأوكرانيا بالسلاح والمال، فإنهما يحافظان على «شعرة معاوية»، إذا جاز لنا التعبير بعلاقتهما مع الرئيس بوتين من ضمن القلة من القادة الأوربيين الذين حافظوا على التواصل هاتفياً مع الرئيس بوتين؛ في محاولة لاستشراف حل للمعضلة الأوكرانية والتفكير في شروط مفاوضات مقبلة بين موسكو وكييف، وعدم ترك الرئيس إردوغان يشكل قناة الاتصال الوحيدة مع بوتين. ومن جهة أخرى ينظرون إلى الاتحاد الروسي على أنه في نهاية الأمر دولة أوروبية، كما كان غورباتشوف يسعى لأن تكون روسيا جزءاً من «البيت الأوروبي الكبير»، حسب تعبيره. أضف إلى ذلك خشية الزعيمين الفرنسي والألماني أن تتجه روسيا الآن إلى الشرق، بدلاً من أوروبا بسبب توثق العلاقات الروسية الصينية! ولهذا السبب حرص الرئيس ماكرون بشكل دائم، وإن جاءت بصياغات مختلفة؛ منها دعوته مؤخراً إلى تجنب سحق القوات الروسية والاكتفاء بإلحاق الهزيمة بها. وقد صرح رئيس وزراء فرنسا السابق دومينيك دو فيلبان بأن حرص فرنسا وألمانيا في مواقفهما من الحرب الأوكرانية الروسية ينبع من نظرتهما الشاملة إلى موضوع الصراع الحالي من منطلق رؤية كلية لصورة الصراع مع روسيا، بعكس اختلاف مواقف دول أوروبا الشرقية التي لا تنظر إلى كامل أوجه الصراع الراهن مع روسيا. وأسباب هذا الاختلاف تعود إلى أن تلك الدول فقيرة اقتصادياً وفي حاجة إلى المساعدات والدعم الأمريكي لها. ولذلك كانت من الأوائل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بقبول عضويتها في حلف «الناتو»، وكذلك في الاتحاد الأوروبي. والواجهة الأخرى في الاختلاف بين طرفي التباين في إطار الاتحاد الأوروبي أن طلب انضمام أوكرانيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وقف أغلب دول أوروبا الشرقية لصالح انضمامها، في حين كان رد الرئيس ماكرون بـ«أن مراحل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تتطلب عدة سنوات، وبصراحة عدة عقود»، وشاركه وأيّده في هذا الموقف مستشار ألمانيا شولتس بقوله: «نعم لتزويد أوكرانيا بالأسلحة، أما قبول انضمامها فوراً فلا».
وتسعى أوكرانيا منذ سنوات للانضمام إلى «الناتو»، حيث سعى الرئيس الأوكراني زيلينسكي من أجل الانضمام السريع للحلف، ولكن لا يبدو أن هذا الأمر سيلقى قبولاً من قِبل أعضاء الحلف؛ لما سيترتب عليه من تصعيد خطير في علاقتهم بالاتحاد الروسي، وفق المادة الخامسة من المعاهدة، والتي تنص على أن الهجوم المسلح على أي عضو يعتبر هجوماً على الجميع.
ومع ذلك لم يتوانَ وزير دفاع أوكرانيا عن التصريح بالقول إن أوكرانيا أصبحت عضواً فعلياً في «الناتو» بحكم الواقع وليس بحكم القانون.
هل أخطأ بوتين في اجتياح أوكرانيا لتجسيد رغبته باستعادة أوكرانيا إلى روسيا الوطن الأم، واعتقد أن بإمكانه تحقيق ذلك في عملية عسكرية سريعة ببضعة أيام، وربما أسابيع، وأن دول أوروبا والولايات المتحدة قد تتغاضى عما يقوم به، كما جرَّب ذلك سابقاً في عام 2014 باستيلائه على شبه جزيرة القرم، أم بات الآن يدرك أن الظروف مختلفة، ولذلك كما قيل إن المبادرة الصينية المقترحة للسلام في أوكرانيا توحي بأن الجانب الصيني أطلع سلفاً الكرملين على مضمون المبادرة. الشيء المؤكَّد أن تداعيات حرب أوكرانيا أظهرت بوضوح أنه لن يكون أحد الطرفين في الصراع حقق أهدافه، وأن العالم سيكون مختلفاً عما كان عليه قبل حرب أوكرانيا!
وللحديث بقية