حرائق وبابونج

منذ 1 سنة 191

«ليت الشرطي ضرب ولدي وسحبه خارج السيارة. لكن أن يطلق عليه النار؟!». كلمات توجع القلب قالتها منية، والدة المراهق نايل الذي لقي مصرعه في حادث تفتيش عادي في نانتير، ضاحية باريس. ومنذ مقتل الولد والضواحي تشتعل. ينتقل الحريق إلى وسط باريس ومرسيليا وليون وغيرها من مدن البلاد.

كنت أنوي أن أكتب اليوم عن جمال الحدائق والمتنزهات المترعة بالشمس. عن تلك الطحالب التي تخرج إلى النور من بين شقوق الجدران وحافات الأرصفة. لكنّ الدخان الكثيف المنبعث من نشرات الأخبار يغطي على كل ما هو أخضر ورائق. أقول لنفسي هكذا هي دنيانا؛ دمار يجاور ازدهاراً، موت من هنا وولادة من هناك.

أي يد مباركة تلك التي مرت بهذا الشارع وخطّت، بالطباشير، اسم كل نبتة تطلّ برأسها من بين صفوف الحجر أو تشق طريقها إلى الهواء من فجوات القار الذي يعبّدون به الطرقات؟ كنت قد قرأت عن تلك السيدة ذات التخصص النادر. اسمها فالانتين، وهي خبيرة بأعراق النباتات. مَن قال إن النبتة مقطوعة من شجرة، أي ليس لها أهل وآباء وسلالة؟

تدعو مدام فالانتين عشاق كل ما هو أخضر في الطبيعة إلى جولات تتولى تنظيمها في أحياء باريس. كل ما هو مطلوب من رفاق الرحلة أن يحضروا معهم قطعة طباشير أو أي صبغة نباتية تصلح للكتابة على الحجر. يتوقف المتجولون عند كل عشبة متمردة على صلابة الإسمنت. تساعدهم الخبيرة في التعرف إلى فصيلتها وخصائصها. تدلّهم على اسمها الشعبي واسمها العلمي. يأخذون الطباشير ويسجلون الاسم قرب النبتة. تسمية «أعشاب ضارة» أو «حشائش ملعونة» وفق التسمية الفرنسية. نحن كنا نسميها نباتات طفيلية. نقتلعها من حواف أقلام الورد. نتصور أنها تضرّ به وتشاركه حصته من رحيق التربة. ثم تأتي فالانتين وتشرح لنا أن لا شيء طفيلياً على هذه الأرض. لكل مخلوق رزقه، حتى لو كان عشبة ضئيلة أو نملة.

دعاني رسام من أصدقائنا إلى زيارته في مرسمه لمشاهدة لوحاته. كان قد استغل حجرة مشيّدة من الحجر والطين في أقصى الحديقة وجعلها مرسماً. ومن بين كل اللوحات، سحرتني زهرة بابونج صغيرة نبعت وسط الجدار الخشن، تزهو بصفرة وريقاتها. هل زعل الفنان حين أخبرته بأنها أجمل لوحات المرسم؟ رأيت عملاً من إبداع الطبيعة.

والآن، ماذا تريد فالانتين من جولاتها في الأزقة، أيام الآحاد والعطلات؟ يبدو هدفها هلامياً لأمثالي. تجرفنا المشاغل اليومية ولا تترك لنا فسحة لتأمل ما حولنا. تريد الخبيرة أن تؤسس أكبر دليل للأعشاب المبثوثة في الطرقات. تلك التي تدوسها الأقدام المسرعة من دون انتباه. تخبرنا أن الكثير من تلك النباتات صالح للأكل، ومنها ما هو مفيد كعلاج. لكن إياكم من انتزاعها من حافة الرصيف ووضعها في الغلاية للحصول على نقيع مهدئ للأعصاب، مثلاً، أو لوجع المعدة. لقد مر عليها سكارى الليالي والكلاب المدللة وقضوا حاجاتهم في زوايا الطرقات. اليوريا خير سماد.

أتأسف لأن الكتابات بالطباشير على الزفت لن تصمد تحت الأقدام العابرة. استعيد ما أنشدته فيروز عن عاشقة تكتب اسم حبيبها على الورد العتيق، ويكتب هو اسمها على رمل الطريق. تمطر السماء ويُمحى اسمها. أتخيل فالانتين ترمقني بنظرة فيلسوف عارف. تقول لي إن لا شيء يزول. اليد التي كتبت حفظت الاسم. هل قرأت السيدة الفرنسية محمود درويش: «أثر الفراشة لا يُرى... أثر الفراشة لا يزول»؟

المدينة تحترق، ثم تنفض رمادها وتخضوضر.