ملخص
انتشرت أخيراً دعوات إلى الصيام عن دوبامين السوشيال ميديا، أي إغلاق جميع الحسابات النشطة لمدة أشهر وربما أعوام، وذلك بعد أن وجد بعض منهم نفسه رهينة للسعادة الموقتة التي تسببها هذه المنصات عن طريق التصفح الدائم والاطلاع الذي لا ينقطع، لكن نظراً إلى التحفيز المبالغ فيه تترك هذه المتعة شعوراً بالفراغ وقلة التقدير، بالتالي تنتشر النصائح التي تطالب بإعادة المشاعر الطبيعية لنصابها بالتخلص من إدمان منصات التواصل.
ما بين صيام متقطع، وصيامات أخرى عن السكريات أو الدهون أو غيرهما، يبدو البشر خلال العقدين الأخيرين محاصرين بمصطلحات تطالبهم بالتخلص من السموم بمعانيها الواسعة، سواء تلك المتعلقة بالطعام والشراب، أو الأخرى المتعلقة بالعلاقات والسلوكيات.
وأخيراً انتشر مصطلح صيام الدوبامين، وهو ناقل من ضمن النواقل العصبية التي تسهم في الشعور بالمتعة والدعم والمكافأة، بالتالي أصبح له مصطلح شعبي على رغم عدم دقته العلمية وهو هرمون السعادة، وبات وثيق الصلة بدعوات إلى مقاطعة "السوشيال ميديا" لبعض الوقت للتخلص من سمومها، وطريقتها في التحفيز المبالغ فيه التي تسبب في ما بعد خواء وشعوراً بالوحدة وعدم الرضا، والهدف هو إعادة السيطرة على زمام الأمور والاستمتاع بتفاصيل الحياة البسيطة ببطء بعيداً من الكاميرات والإشعارات والتعليقات والشاشات ساطعة الإضاءة.
قد يصاب بعض منا بالاحتراق النفسي جراء هذا التحفيز التكنولوجي أكثر من غيره، ولا شك في أن كثيرين قد لا ينتبهون إلى أن المتابعة المستمرة والخوف من عدم اللحاق بالركب قد تحدثان خللاً حقيقياً في طريقة تعاملهم مع الواقع، بل وتجعل سعادتهم رهينة لهذه المنصات، وتفقدهم تدريجاً الإحساس بقيمة ما يمتلكونه وبقيمة الأشياء التي كانت تسبب لهم سعادة غامرة قبل الغرق في هذه الأجواء المستفزة للأعصاب والبدن، لكن ما منطقية تلك الدعوات، وهل الصيام عن الدوبامين التكنولوجي يعمل بآلية الصيام نفسها عن الإدمان الحقيقي أو الطعام الشهي مثلاً، وهل هذه الطريقة التي تنشر شهادات من عايشوها عربياً وعالمياً مجدية ويمكن أن تكون خطوة للخلاص من اكتئاب التكنولوجيا بالفعل أم أن هناك وسائل أخرى أكثر عملية.
الصوم عن المتعة أم لأجلها؟
في عام 2018 صاغ كاميرون سيباه طبيب الأمراض النفسية في جامعة كاليفورنيا المصطلح بصورة علمية ومحددة، لكن وفقاً لمقالة نشرها الطبيب والباحث بيتر جرينسبون على الموقع الرسمي لكلية الطب بجامعة هارفارد، حرف معنى المصطلح بصورة كبيرة وأسيء استخدامه، مشيراً إلى أن سيباه كان يقصد من خلال "صيام الدوبامين" طريقة في العلاج المعرفي السلوكي تعتمد على إعطاء فترات راحة للدماغ من المحفزات والعادات غير الصحية التي تمنحنا شعوراً موقتاً بالسعادة.
الأمر هنا وفقاً لما جاء في تقرير هارفارد ينطبق على أشياء من بينها التكنولوجيا وألعاب الإنترنت والأكل والتسوق بإفراط وتناول الكحول والمخدرات، وأيضاً الرغبة في إيجاد شيء جديد طوال الوقت، وهو ما يجر الناس للمتابعة المرعبة لكل إشعارات حساباتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولهذا فإنه بإدارة هذا الصيام يمكن "إيجاد المتعة في القيام بأنشطة أبسط وأكثر طبيعية، لنستعيد السيطرة على حياتنا ونكون أكثر قدرة على معالجة السلوكيات القهرية التي قد تتداخل مع سعادتنا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العبارة الأخيرة نصاً من مقالة هارفارد التي نشرت قبل نحو أربع سنوات، مع التشديد على أن الأمر لا يقصد به ملذات الحياة الصحية، وإنما فقط المضرة والخطرة، وعلى رغم ذلك فإن الدعوة إلى الامتناع عن مسببات السعادة المزيفة أو الموقتة بدأ الترويج لها في عام 2016، إذ أطلق شخص يدعى جريج كامفويس تحدياً ترفيهياً لمحاولة العيش بطريقة صحية لا سيما نفسياً، وكان الهدف منه التوقف لمدة 40 يوماً عن محفزات مثل الأكل غير الصحي والمواد الإباحية والمواد المخدرة والكحوليات، وكذلك تقليل معدلات التعرض لمواقع التواصل الاجتماعي.
تقنين لا مقاطعة
قد يكون التقليل هنا هو الحل الأقرب للواقع بالنسبة إلى الفئة العريضة من المتعاملين مع مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تشير استشاري الصحة النفسية دعاء حسين إلى أنه من الصعوبة الامتناع بصورة كاملة لمدة طويلة عن التواصل أو المتابعة بخاصة لمن أصبحت السوشيال ميديا وسيلتهم لكسب العيش، وبينهم أصحاب المشاريع الصغيرة الذين يتزايدون يوماً بعد آخر. وتابعت "أنا ضد الصيام الكامل عن السوشيال ميديا، لأنه قد يأتي بنتائج عكسية ويسبب ضيقاً، فالانقطاع عن التواصل في حياة أشخاص كل وسيلتهم في التعامل الإنساني مع غيرهم هي هذه المنصات، بالطبع سيكون له تأثير سلبي، ومع ذلك فمن الضروري أن نقنن استعمالها ونحدد لها عدد ساعات قليل في اليوم كي لا تطغى على الحياة الواقعية، بخاصة أنها منصات ضرورية للتعلم عن البعد والترويج للمشاريع وحتى للاستشارات الطبية، فهي لها جانب إيجابي لا يمكن إغفاله، لكن الانخراط فيها من دون حساب هو بالطبع إدمان ينبغي التصدي له".
هذا الإدمان تصفه أستاذة الإعلام الدكتورة حنان يوسف، عميد كلية الإعلام واللغة بالأكاديمية البحرية، بأنه ظاهرة واضحة للغاية، ومن أبرز مشاهدها هو السيطرة الشديدة لمنصات التواصل على حياتنا في مناحيها الاجتماعية والسياسية والإنسانية والاقتصادية، إذ تعتبرها أكبر مستهلك للوقت بسبب استخدامها غير الرشيد، ولذلك هي تثمن الدعوات التي تحاول إبعاد سيطرتها المحكمة على الحياة الشخصية، لافتة إلى أنها دعوات تعكس تمرداً على هذه السيطرة.
وتشير يوسف إلى التنبه واليقظة لخطورة الأمر، ولذلك هي بحاجة إلى الرصد، معتبرة أن مصطلح صيام الدوبامين يقر بأن هذا اللهاث وراء كل ما تنتجه هذه المواقع هو مرض ينبغي الشفاء منه، ومع ذلك فهي تدعو إلى الترشيد أيضاً في استعماله وليس المقاطعة التامة.
وتضيف "هناك حاجة ماسة إلى إعادة صياغة تعاملاتنا مع هذه المنصات، لكن التطبيق الحرفي للامتناع قد يكون غير منطقي بالنسبة إلى الغالبية في عصر الثورة المعلوماتية، فلا يمكننا الانفصال عما يجري ولا يمكننا التراجع، فهناك شيء خطر ينبغي الوقوف أمامه ومواجهته، لأن هذا الاستهلاك غير الواعي يسبب خسارات بينها الاحتراق الذاتي، وهذه المواجهة يجب أن تكون على المستويين الشخصي والمؤسسي عن طريق التنظيم والتربية الرقمية، ليكون الاستخدام منضبطاً وواعياً ويحقق الفائدة".
الإقلاع عن هيستيريا المتابعة
في الأسابيع الأخيرة عادت موجة الحديث عن أهمية هذا الصيام في ظل الضغط الكبير الذي تولده المتابعة الحثيثة لما يجري في العالم سواء على مستوى المآسي أم حتى على مستوى الترفيه، إذ تسير الموجتان جنباً إلى جنب وكل بحسب تفضيلاته. يقول إسلام عيد الشاب الثلاثيني الذي يعمل في شركة شحن كبيرة إنه كاد يفقد عقله جراء اعتماده بصورة كاملة في التسلية على مواقع التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أن مهنته تجعله مضطراً إلى التواصل هاتفياً وعبر الدردشات مع العملاء والموظفين، بالتالي غير مطلوب منه متابعة ما تبثه الصفحات والمنصات، لكنه مع ذلك لم يكن ينام إلا والهاتف أمام عينيه، يشاهد فيديوهات قصيرة، ويتابع جديد الأخبار، وبث نجوم "تيك توك" المباشر، مشدداً على أنه بجانب الشحن النفسي كانت هناك خسائر بدنية، فلم يعد نومه منتظماً ولم يعد يتذكر حتى ما يشاهد أو يتمكن من التركيز لأوقات طويلة، وبعدها سمع بالنصيحة وأغلق حساباته الشخصية لمدة أربعة أشهر. كان الأمر صعباً للغاية لكنه قام به تدريجاً وتخلص من منصة بعد أخرى، كما حرص على أن تكون هناك بدائل للتسلية مثل القراءة أو مشاهدة التلفزيون أو لقاء الأصدقاء.
وتابع "شعرت بالفعل بأنني أصبحت أسرع في إنجازي للمهمات، إذ كنت بحاجة ماسة إلى هذه الهدنة، والحقيقة أنني تعاملت مع الأمر مثلما تعاملت مع فكرة الامتناع عن التدخين تماماً، في ما يتعلق بتحفيز نفسي وبالإصرار وبأخذ المسألة بصورة متدرجة". وتابع الموظف الذي يعمل لمدة أربعة أيام أسبوعياً فقط أنه بات ينصح أصدقاءه بهذه الفكرة، إذ يرى أنه حتى بعد عودته لمنصات التواصل بات أكثر حكمة في التعامل معها بعد أن تأكد بنفسه من تأثيراتها شديدة السلبية فيه، بخاصة في ما يتعلق بإفساد المتعة بالتفاصيل وبالحياة عموماً.
خطوات الشفاء
ومثله كانت هناك حالات متعددة تقوم بهذه التجربة حتى من دون أن تعلم شيئاً عن النصائح العلمية المتعلقة بصيام الدوبامين، لكنهم يقدمون على إيقاف تفعيل حساباتهم لمحاولة خلق مساحة للمكوث مع النفس بعيداً من المشتتات، ومن دون أن يكونوا مطالبين بالرد والتعليق والدردشة مع من ينشطون على حساباتهم، وبعضهم صمد لأيام وأسابيع وآخرون لأشهر، وغيرهم نجح في الابتعاد من التفاعل لمدة تزيد على عام.
واللافت أن ما فعلوه قريباً جداً من النصائح التي أطلقها الأميركي نك ترنتون في كتابه الشهير "صيام الدوبامين"، الذي يمنح قراءه خطة لتعلم الاستغناء عن المشتتات والعادات السيئة وإعادة التحكم في حياتهم لتعزيز الشعور بالرضا واستعادة الطاقة الإيجابية وزيادة الإنتاجية، وخلق مناخ نفسي متوازن، والكتاب الذي حقق شهرة كبيرة بسبب تناوله هذه القضية بتعمق، نظراً إلى أن مؤلفه باحث في علم النفس السلوكي يستعرض بصورة مبسطة فوائد صيام الدوبامين وجعله نمط حياة، للمساعدة في الإقلاع عن العادات المضرة، لإعادة ضبط مستويات الدوبامين الطبيعية والمتزنة في الجسم، مما يسهم في تحسين المزاج ورفع الوعي الذاتي مستنداً لنتائج أبحاث علمية بالمجال.
تقول استشاري الصحة النفسية والإرشاد التربوي دعاء حسين إنه على رغم أن مواقع التواصل الاجتماعي لها إيجابيات كثيرة وسهلت الحياة على كثيرين، إلا أنها زادت من التطلع غير المبني على أسانيد منطقية، ونتيجة لهذا ترتفع معدلات الإحباط وحتى الانعزال، مشيرة إلى أنه كلما زادت هيستيريا المتابعة زاد الخوف من أن يحدث شيء من دون أن نكون ملمين به، لتتحول هذه المنصات بصورة كاملة إلى مصدر للضرر النفسي والبدني.
ونصحت الخبيرة النفسية بأن تستعمل "السوشيال ميديا" وليس العكس، بمعنى أن يقوم كل شخص بتطويعها وفقاً لحاجاته ومنافعه وأن يستفيد منها مهارات وخبرات، لا أن ينخرط في معارك مرهقة مع الآخرين، أو حتى مع الذات لأنها قد تفسد علاقته بنفسه تماماً، وتجعله يفتقد للرضا الداخلي مثلما تفعل المواد الممنوعة.