حبيب الملا يكتب لـCNN:‏ نحن لا ندرس القانون.. ولماذا قد نكون عاجزين عن إيجاد معالجة لهذه الإشكالية؟

منذ 1 سنة 143

هذا المقال بقلم الدكتور حبيب الملا، ‏الشريك المدير، مكتب حبيب الملا ومشاركوه. الآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

في لقاء مع الإعلامي الأخ إبراهيم أستاذي، في برنامج أول مرة، سألني عن المناهج الدراسية في مجال القانون فأجبته بأنها تحت الصفر. وكان هذا التعليق على ما يبدو صادما إذا سألني عنه أكثر من شخص وعما إذا كنت معتقدا ما قلته في اللقاء.

‏هذا الأمر يقودنا إلى استعراض اشكالية دراسة القانون في الجامعات والكليات العربية ومآلات مخرجات هذه الكليات ومدى قدرتها على المنافسة في سوق العمل خاصة في الدول التي يتواجد بها ويعمل فيها خريجو الكليات والجامعات الأجنبية. ‏وحقيقة فإننا في الجامعات العربية لا ندرس القانون بالمعنى الصحيح للكلمة بل ندرس تاريخ القانون. وما أعنيه ليست دراسة تلك المادة التي تستعرض التطور التاريخي للنظريات القانونية بدءا من شريعة حمورابي حتى اليوم. وإنما أقصد أن ما تطرحه كليات القانون في الجامعات العربية من مواد ليست إلا إرثا تاريخيا لمواد كانت تدرس فى ثلاثينات القرن الماضي حينما تمت ترجمة تلك المواد من الفرنسية إلى العربية.

‏فعلى سبيل المثال، أذكر أنني درست موضوع الأوراق التجارية في سياق دراستي لمساق القانون التجاري في جامعة الإمارات في الثمانينات من القرن الماضي. وكانت الأوراق التجارية التي يتم تدريسها هي بالترتيب: الكمبيالة والسند الأذني والسند لحامله والشيك. وأذكر أنني في تلك الفترة كنت أتساءل عن جدوى حلول الكمبيالة فى الصدارة كأهم انواع الأوراق التجارية وتخصيص الجزء الأكبر من المادة لتدريسها وحلول الشيك في ذيل تلك القائمة مع أنه في دولة الإمارات يحتل الشيك المرتبة الأولى في التعاملات التجارية بينما تكاد تختفي الكمبيالة الا في بعض المعاملات المصرفية وذلك بخلاف السائد في بعض البلدان الأخرى مثل مصر حيث تحتل الكمبيالة، أو كانت، موقع الصدارة في التعاملات. وهذا مثال لانفصام المناهج عن واقع وطبيعة المعاملات في الحياة العملية. وما صدمني هو أنه أثناء مراجعة لكتاب القانون التجاري لأحد الطلبة في إحدى جامعات الدولة قبل سنين قليلة، تبيّن أن مساق القانون التجاري لازال يتضمن موضوع الأوراق التجارية بنفس المحتوى والترتيب الذي درسته أنا قبل أكثر من ثلاثين سنة.

‏قارن هذا الأمر مع محتوى المناهج الدراسية لكليات القانون في الدول الغربية حتى تدرك الفارق الكبير في مضمون المناهج الدراسية. فمثلا أثناء مطالعتي قبل سنوات لبعض المواد في برنامج الماجستير الذي تطرحه إحدى الجامعات الغربية، كنت أجد مواد تتعلق مثلا بالجينوم البشري والتطبيقات الإلكترونية وغيرها من مستجدات العصر والتعامل.

‏وأذكر كذلك أنه أثناء دراستي الماجستير في جامعة هارفرد، كانت إحدى المساقات المطروحة هي عن كيفية ممارسة الأعمال مع الصين. وكانت الولايات المتحدة في حينها على انفتاح اقتصادي مع الصين فكان من الطبيعي أن تعكس المواد الدراسية واقع الأعمال حينها.

‏وكذلك كان معظم مضمون القانون الدولي الخاص يتركز حول استثمارات الشركات الأمريكية في الخارج وكيفية حماية تلك الاستثمارات في الدول الأخرى من عواقب التأميم وما هي القوانين التي يتوجب اخضاع النزاعات المتعلقة بتلك الاستثمارات لها. كما تضمن المنهاج مساقات عملية مثل آليات التفاوض وغيرها من المساقات التي تخدم الدارس في سوق العمل بعد تخرجه من الجامعة.

‏وعلى عكس ذلك، كانت المناهج الدراسية في كليات القانون لدينا بعيدة كل البعد عن واقع الأعمال. فمثلا أنهيت خمس سنوات من الدراسة دون أن أتعلم حرفًا واحدًا عن التأمين مع أهمية تلك المادة في الواقع العملي. وعانيت بسبب ذلك أثناء ممارستى لمهنة المحاماة حيث كان عملى يتطلب مني خوض قضايا التأمين بمختلف أشكالها من التأمين على السيارات إلى التأمين على الحياة الى التأمين البحري إلى التأمين على الحريق دون أن أكون قد تعلمت ألف باء التأمين. وعوضت ذلك بالمجهود الشخصي عن طريق البحث والاطلاع حتى أتمكن من النجاح في عملي.

والأزمة الحقيقية التي نعانيها هي أننا حتى لو أردنا معالجة هذه الإشكالية في تعليم القانون فإننا عاجزون عن ذلك لعدم امتلاك أدوات التصحيح. فمعظم الكوادر التعليمية تعتمد في معرفتها على ما تلقته من علم من جيل التدريس السابق الذي تلقى تعليمه من جيل التدريس الذي سبقه وهكذا دون أن يقوم أي من تلك الأجيال المتلاحقة بتطوير المضمون الذي يتم تلقينه إلا فيما ندر. فإذا كان الحال كذلك، كيف يمكن للكوادر التعليمية إصلاح المنظومة التعليمية وهي لا تمتلك أدواتها المعرفية!

‏والسبب الرئيسي في ذلك يعود في نظري إلى أننا حبسنا أنفسنا في قالب الدكتوراة إذ لا يستطيع أن يقوم بالعملية التدريسية إلا من كان يحمل تلك الشهادة، وأصبحت الدكتوراة بذلك هدفا عوضًا عن أن تكون وسيلة مع أن الدكتوراة لم تكن شرطا للقيام بالتعليم في الجامعات التي درست بها وإنما كانت خبرة الاستاذ ومؤلفاته العلمية هي التي تؤهله لتصدر العمل التعليمي.

‏وهذا الانفصام بين الواقع العملي وبين المناهج التعليمية هو الذي أدى إلى وجود حاملي شهادات قانون عاطلين عن العمل لأنهم بذلك التعليم ليسوا في موقع يؤهلهم للمنافسة مع نظرائهم من خريجي الجامعات الغربية.

‏وهذه ليست دعوة للإحباط بقدر ما هي دعوة للنهوض والأخذ بزمام المبادرة. فالأمر يحتاج ثورة حقيقية وإعادة هندسة كاملة للمناهج القانونية تعكس متطلبات الحاضر والعمل مع التجديد المستمر للمضمون ليواكب التطورات السريعة الحاصلة في الحياة حتى نستطيع تدارك واقع يزيد سوءًا يوما بعد يوم بما لذلك من انعكاسات سلبية على سوق العمل.