عند كوع الكحالة شاهد اللبنانيون والعالم حاضر بلدهم ومستقبله؛ أقله على المدى القصير وحتى المتوسط، فقد كشف انقلاب شاحنة السلاح المعروفة المصدر والمالك، عما لم يكن مستوراً منذ سنوات، أي أشياء كانوا يعلمون بها أو يسمعون عنها لكن لا يرونها رغم أنها تمر من أمامهم، ولكن الصدفة على طريق الكحالة أو المعروفة بالطريق الدولية التي تربط بيروت بدمشق، وتربط دمشق ببغداد عبر معبر البوكمال، وبغداد بطهران عبر هيمنة كاملة على ما تبقى من العراق، جعلت من المستور أو المستتر مكشوفاً ومعروفاً.
في الكحالة كان الاستثناء الوحيد الحرج الذي تسبب فيه انقلاب شاحنة السلاح للسلطة الحاكمة، التي ارتبكت أمام المشهد المنقول مباشرة على مرأى من الرأيَين العام الداخلي والخارجي وأمام أعين صُنّاع القرار الإقليمي والدولي، الذين رغم تواطؤ بعضهم مع هذه السلطة وغض طرفهم عن كثير من تجاوزاتها وفسادها في مراحل سابقة وربما لاحقة، قد لا يستطيعون التستر عليها هذه المرة، فالواضح أن ما تبقى من سلطة بعد غياب كامل للدولة في لبنان لم يعد باستطاعتها تسيير حتى أمورها الخاصة؛ فمن أحداث عين الحلوة ومحاولة أقلمة السلاح الفلسطيني في مخيمات لبنان عبر إضعاف سيطرة منظمة التحرير وحركة فتح لصالح فصائل متطرفة لا يمكن ضبطها، وسط احتقان طائفي قابل للانفجار في أي لحظة، مروراً بحوادث أمنية متفرقة واغتيالات كان أخطرها خطف وقتل المواطن إلياس الحصروني في الجنوب، أحداث لم يعد ممكناً تسجيلها ضد مجهول حتى لو مُنعت التحقيقات من الوصول إلى نتائج حقيقية.
الطبقة السياسية التي ساومت الحزب على سلاحه ضمن مقايضة معروفة بالسكوت عن السلاح مقابل السكوت عن الفساد، حوَّل سلاحه إلى متهم مباشر بالفساد وبحماية الفاسدين، وفي بعض الأحيان تحت حمايتهم (أي الفاسدين)، وهذا ما تسبب في ضربة معنوية لفكرة المقاومة التي كانت محل إجماع لدى جميع اللبنانيين، حتى الرأي العام الذي يحاول التمييز ما بين سلاح المقاومة وسلاح الحزب فقد الحجة، ولم يعد قادراً على تبرير موقفه؛ فالموقف الشعبي من السلاح بدأ حالةً تراكميةً، منذ أن استخدمه ضد أهالي بيروت في 7 مايو (أيار) 2008، مروراً بالتدخل في سوريا والتلويح به ضد شابات وشبان انتفاضة تشرين، ومحاولته قمعهم، وصولاً إلى استراتيجية وحدة الساحات التي أعادت إلى الذاكرة حتى في بيئته الحاضنة، جنوب لبنان، حالة عدم الاستقرار التي عاشتها المناطق اللبنانية المحاذية لفلسطين بسبب العمل الفدائي الذي كان ينطلق من لبنان ضد إسرائيل.
عملياً، المسألة ليست نقلَ سلاحٍ، وهو سيستمر، ولا وِجهة الشاحنة؛ المسألة احتقان بلغ ذروته، له أسباب عديدة، في مقدمتها محاولة هيمنة أصحاب شاحنة السلاح على السلطة، من خلال فرض رئيس للجمهورية، وهذا ما جعلهم في مواجهة لها بُعد طائفي تأخذ لبنان إلى الفوضى والتقسيم، وهي مرتبطة بوضع إقليمي، خصوصاً أنَّ أطرافاً في طهران تريد تحرير حركتها الإقليمية من اتفاق بكين، وتربط الاتفاق فقط بالعلاقة الثنائية ما بين الرياض وطهران، وتعدّ نفسها غير معنية بأي تفاهم حول الإقليم، وغير مستعدة لأي تسوية، وهذا ما يمكن وصفه بصراع إيراني داخلي مرتبط بالمرحلة الانتقالية الداخلية وتطورات المشهد الدولي - الإقليمي وعودة واشنطن إلى ترتيب علاقاتها مع حلفائها التقليديين في المنطقة، في مقدمتهم الرياض وأنقرة.وعليه، كشفت حادثة الكحالة وحوادث أخرى متفرقة حدثت في الآونة الأخيرة حجم الاحتقان الداخلي وقابلية أحد الأطراف لتكرار تجربة مَن سبقوه في حكم هذا البلد.