إنه المبنى الذي سألت فيه الأميرة ديانا رئيس مؤسسة نشر "كوندي ناست" Condé Nast [تصدر مطبوعات فوغ وغيرها]، السير نيكولاس كولريدج، ما إذا كان يعتقد بأن ثدييها صغيران جداً. المبنى الذي كانت تقصده تارا بالمر تومكينسون بانتظام من دون دعوة مسبقة لأخذ قيلولة. المبنى الذي تسبب في مشاجرات بين سائقي سيارات الأجرة حول التوصيلات لأن النساء اللواتي يخرجن منه كن "دائماً فائقات الجمال". شهدت الأبواب الدوارة الأسطورية في مدخله عبور كثيرين من كيت موس ونعومي كامبل إلى ليندا إيفانجليستا وكيت ميدلتون. وبالطبع، هناك تاتلر آلان، الكلب الصغير الوسيم بشكل مضحك وذو النهاية المأساوية الذي تحول إلى شخصية مشهورة على "تويتر". سأخبركم مزيداً عنه لاحقاً.
لم يكن مبنى "فوغ هاوس" Vogue House مثل المكاتب الأخرى. ولهذا تأججت مشاعر الحنين في أروقة القطاع هذا الأسبوع لما أعلنت مؤسسة "كوندي ناست" للنشر أنها ستغادر مقرها التاريخي الكائن في منطقة مايفير بلندن بعد أكثر من 65 عاماً. ستنقل الشركة في بدايات عام 2024 موظفيها وعملياتها إلى منطقة إمبانكمينت بلندن [على ضفاف نهر التيمز]، تاركة وراءها مبنى كان "القلب النابض" لصناعة المجلات اللامعة، بحسب وصف كولريدج الذي شغل منصب المدير الإداري لفرع "كوندي ناست" في بريطانيا بين عامي 1991 و2017.
يقول السيد كولريدج، "لم يكن أعظم مبنى في العالم، لكن تعلق الناس به كان لا يصدق... أنا أعتبر نفسي محظوظاً جداً لأنني عملت هناك وكنت موجوداً في ساحة هانوفر سكوير في مثلث لندن الذهبي. أكسب المبنى كوندي ناست دفعة هائلة ولم يكن بإمكانك أن تحزر من ستصادف في بهو الاستقبال ذلك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المعلم البارز المكون من سبعة طوابق والمملوك من كنيسة إنجلترا أنجز بناؤه عام 1958، صممته شركة "ييتس، كوك وداربيشير" Yates, Cook & Darbyshire للهندسة المعمارية. تزينه نوافذ خارجية مبنية بالطوب، بينما يتميز المدخل الأمامي بكتابات ذهبية وأرائك جلدية حمراء ولوحة طويلة تستعرض أحدث أغلفة المجلات اللامعة الصادرة عن "كوندي ناست"، ومن بينها: "فوغ" البريطانية و"جي كيو" البريطانية و"تاتلر" و"غلامر" و"عالم التصميمات الداخلية".
كان المكتب يضم أكثر من ألف موظف، غالبيتهم من النساء، وكان المشاهير وعارضو الأزياء والشخصيات الملكية والمحررون والمتدربون على حد سواء يستخدمون مصاعده التي كانت معطلة في كثير من الأحيان. تقول لويزا ماكغافرن، مديرة التحرير السابقة لمجلة "برايدز"، "أتذكر رؤية صوفي دال هناك ذات مرة... حدقت فيها طويلاً حتى أدركت من تكون، ازداد الموقف إحراجاً لأنني اقتربت منها قليلاً لأعرف كم أنا طويلة مقارنة بها".
في حين أن بعض أجزاء "فوغ هاوس" كانت عبارة عن مكاتب عادية، إذ لا يمكن أن تكون غرف البريد وأقسام المحاسبة أنيقة للغاية، تجاوزت فخامة أجزاء أخرى سمعته البراقة. كان حمام "فوغ" على سبيل المثال مجهزاً بأدوات فرد الشعر التي كانت الموظفات يستعملنها على عجل استعداداً للمناسبات المسائية. كانت صفوف من ملابس المصممين تتوزع في الممرات، في حين بدا المحررون دائماً وكأنهم خرجوا للتو من منصة عرض الأزياء. إضافة إلى ذلك، هناك قاعة الاجتماعات، حيث كان نجوم الصف الأول يتناولون غداءهم غالباً وهم محاطون بصور التقطها أمثال لورد سنودون وهلموت نيوتن وماريو تيستينو.
تتذكر صوفيا موني كاوتس، محررة مقالات متعمقة "فيتشرز" سابقة في مجلة "تاتلر"، "لقد اعتدنا على تسمير أجسادنا بالرذاذ هناك قبل الحفلات... أتذكر بوضوح كيف كنت أقف مرتدية لباسي الداخلي في غرفة الاجتماعات تلك المطلة على ساحة هانوفر سكوير، بينما تحاول اختصاصية تسمير "المشاهير" تشكيل عضلات بطني قبل مشاركتي الأولى في الحفل السنوي الذي تقيمه المجلة للعازبين. كنت قد انضممت للتو آتية من صحيفة ’مايل‘ Mail، كانت البيئة مختلفة تماماً".
كان المبنى مليئاً بالزوايا الخاصة التي قد لا يتوقع المرء وجودها في شركة نشر. كان أحدها مقهى وصالة طعام "تونيز" المتواضع الذي كان ملتقى دائماً للموظفين لتبادل القيل والقال والغزل بينما يتناولون القهوة المصنوعة من حليب الشوفان وسندويشات الأفوكادو التي كان مالك المقهى "توني باتالها"، يحضر منها 32 قطعة في الأقل يومياً. كان الطلب على السباغيتي المصنوعة من الكوسا أكثر من الكيك، على رغم أن الإقبال كان يتغير بحسب أوقات النهار كما قال باتالها ذات مرة، "في الصباح، يكون الناس قلقين جداً في شأن السعرات الحرارية ويختارون الطعام بحذر شديد... لكن بحلول فترة ما بعد الظهر، لا يكترثون".
ومن الأمور الغريبة الأخرى التي يلحظها المرء "استحواذ الحيوانات" على موقع "تاتلر" الإلكتروني مرة كل شهر، حيث يعمل فريق التحرير إلى جانب عدد من المخلوقات ذات الفراء في ذلك اليوم. تقول المحررة السابقة في الموقع الإلكتروني أنابيل سبرانكلين مور، "كنا نملأ بهو الاستقبال في فوغ هاوس بالجراء والحملان والقطط الصغيرة والأرانب العملاقة العدوانية التي كانت تتبول على الأريكة الجلدية الحمراء... ثم كان علينا نقلها بالمصعد وإلى مكتب تاتلر في الطابق الثالث. كنت أخشى ذلك اليوم كل شهر".
شهد المبنى حياكة المقالب أيضاً. يقول ديلان جونز الذي كان رئيس تحرير مجلة "جي كيو" GQ بين عامي 1999 و2021، "أتذكر أن الناشر أرسل ملاحظة إلى الشركة بأكملها في يوم الانتخابات العامة سنة 2005 تذكر الموظفين بأنه يتوقع منهم، وفقاً لعقود توظيفهم، أن يصوتوا جميعاً لمصلحة حزب المحافظين... أظن أن 50 في المئة في الأقل من المبنى صدقته".
كما أن عيد الحب كان حدثاً سنوياً بارزاً في "فوغ هاوس"، فتتذكر موني كاوتس كيف كانت قاعة الاستقبال "تغمر" بباقات من الورود الهائلة وباهظة الثمن التي يرسلها المحبون والأزواج. تقول "كان المكان يبدو وكأنه قاعة أفراح مستفزة كل عام". كان هناك طلب شديد على موظفات دار "فوغ" لدرجة أن "الأولاد الأثرياء بشعرهم المسرح بأناقة" كانوا يتسكعون دائماً خارج المبنى حوالى الساعة 12.55 ظهراً و6.25 مساء، إذ "كانوا يأملون في كثير من الأحيان في رؤية نساء مثيرات أثناء مغادرتهن المبنى، أو ينتظرون مقابلة إحداهن للخروج في موعد غرامي. كان الوضع هناك يشبه مشهداً من أحد أفلام ريتشارد كورتيس في بعض الأحيان".
كانت معظم الطوابق تمتلك هوية مميزة خاصة بها، والتي من شأنها عكس طبيعة المجلات الموجودة فيها وموظفيها. كتب كولريدج في كتابه "السنوات اللامعة" The Glossy Years، كيف أن مكاتب فوغ "كانت مأهولة حقاً بنساء نحيلات مهووسات بالموضة، يرتدين ملابس سوداء وأحذية بكعوب عالية ورفيعة جداً". أما مجلة "البيت والحديقة"، فكانت "توظف سيدات مجتمع من حزب المحافظين وفتيات ريفيات جميلات نشأن في مساكن قديمة تابعة للكنسية في مقاطعة غلوسترشير". في هذه الأثناء، كانت مجلة "تاتلر" "تستعين بشخصيات اجتماعية لديها توجهات حزبية متأصلة". وكانت مجلة "برايدز" (عرائس) تختار "شابات رائعات ولطيفات يعرفن كل شيء عن فساتين الزفاف". وكانت مجلة "عالم التصميمات الداخلية" عبارة عن "مدرسة فنية بوهيمية"، و"جي كيو" "غرفة للرياضة والملابس الرجالية يحركها هرمون التستوستيرون".
على كل حال، لم يكن من السهل وضع كل طابق ضمن إطار معين. يقول موظف سابق فضل عدم الكشف عن هويته، "كان هناك شيء مميز في الطابق الثاني الذي كان عبارة عن عدد كبير من الأقسام العشوائية اختلطت سوية... يسود إحساس جميل بالصداقة الحميمة هناك".
تضيف بيب بلاشكوفسكي التي عملت في كل من "فوغ" و"تاتلر" و"فانيتي فير" قبل إطلاق علامة الأزياء الخاصة بها "ويذ ناثينغ أندرنيث" With Nothing Underneath "لم يكن هناك كثير من الاختلاط بين الطوابق... مع أنني أتذكر أن الناس كانوا يجتمعون في كثير من الأحيان في استراحة المرضى الموجودة في طابق مجلة فوغ. كل الموجودين هناك عادة كانوا يعانون صداعاً بسبب الإفراط في شرب الكحول".
هناك شخص، يحرص كل من سبق له العمل في "فوغ هاوس" تقريباً على ذكره. إنه جون، المشجع المتحمس لفريق أرسنال لكرة القدم الذي كان يعمل في الاستقبال. جون الذي كان عيني دار "فوغ" وأذنيها، يمتلك حضوراً مبهجاً على الدوام ويبدو أنه يعرف كل شيء عن كل شخص دخل من تلك الأبواب، بما في ذلك الأشخاص الذين كانوا يخرجون معهم في مواعيد غرامية وكنياتهم.
يتذكر المصور دارين جيرش توجهه إلى مكاتب "فوغ" غالباً برفقة كلبته ميلي ذات الفراء القصير. يقول، "كانت تحب الذهاب إلى فوغ هاوس... كان جون يدللها بالأطعمة اللذيذة، اعتادت أن تلتهم يده تقريباً. كنا نمر أمام المبنى في كثير من الأحيان فتبدأ بهز طوقها وتشدني نحو الأبواب. لذلك أتيحت للجميع فرصة التعرف على ميلي، وكلما ذهبت لتسليم الصور، كان جون يتصل بالمحررين ليعلمهم بذلك، وكنت أسمعهم يسألون ’هل ميلي معه؟‘. وهكذا كانوا يأتون لرؤيتها ويسألونني وهم يداعبونها عن أنشطتي خلال الأسبوع وما إذا كان لدي الوقت لحضور حفل موسيقي. أقسم أنني حصلت على جميع مهامي في فوغ بسبب كلبتي ميلي".
بالطبع كان "فوغ هاوس" المكان الذي اكتسبت فيه بعض أشهر الشخصيات الأسطورية في الصناعة خبرتها. مر رؤساء تحرير سابقون، بمن فيهم تينا براون وآنا وينتور وغريس كودينغتون ولوسيندا تشامبرز من تلك الأبواب في بدايات حياتهم المهنية. قضت تشامبرز 37 عاماً في العمل في النسخة البريطانية من مجلة "فوغ"، كمديرة قسم الأزياء على وجه التحديد قبل أن تشارك في تأسيس منصة التسوق "كولاجيري" Collagerie بالتعاون مع زميلتها السابقة في "فوغ" سيرينا هود. تقول واصفة عملها الأول الذي كان تناقضاً صارخاً مع منصبها النهائي، "بدأت في حجرة صغيرة مغبرة كسكرتيرة لموظفة النفقات المتواضعة ليلي ديفيز... أعتقد بأنه كان المكتب الوحيد الذي لم يكن فيه أحد يدخن أو يضحك أو يناقش، [أو] يطرح أفكاراً من الموضة إلى الأدب... وصلت في نهاية المطاف إلى مكتب أبيض، مضاء، محاط بألواح تحمل أفكاراً ملهمة، وبطاقات وملابس العارضات، والكثير الكثير من الملابس، كان حلماً تحول إلى حقيقة. لدي ذكريات سعيدة فقط".
على أية حال، لم يكن "فوغ هاوس" يخلو من المشكلات، مثله مثل أي مكتب. كانت هناك قصة الكلب تاتلر آلان الذي كان حسابه على "تويتر" يبهج أكثر من ألفي متابع بصور "السيلفي" وحكايته عن نزهات المشي التي يقوم بها يومياً، وانتهت بطريقة صادمة عام 2013 عندما قتل آلان في حادثة غريبة متصلة بتلك الأبواب الدوارة في مدخل المبنى. انتشر خبر وفاته على مستوى البلاد.
وتقول موني كاوتس، "أتذكر التقاط صورة لسيارات الإطفاء الثلاث التي وصلت لمحاولة إنقاذه، معتقدة بأنها ستكون قصة يوميات طريفة أنشرها في اليوم التالي... لكن هذا كان قبل وفاته. كان أكثر يوم مؤلم لنا جميعاً هناك على ما أعتقد. لا بد من أن صوت النحيب كان مسموعاً في الفضاء".
في هذه الأثناء، بعد فترة وجيزة من الإعلان عن أن إدوارد إينينفول سيخلف ألكسندرا شولمان كرئيس تحرير النسخة البريطانية من مجلة "فوغ" عام 2017، شاركت نعومي كامبل صورة ملتقطة على سطح "فوغ هاوس" يبدو أن كل العاملين الذين يظهرون فيها بيض البشرة. كتبت عارضة الأزياء الشهيرة في التعليق المرفق، "أتطلع إلى فريق عمل شامل ومتنوع الآن بعدما تولى إدوارد إينينفول رئاسة التحرير".
منذ استلامه المنصب، يدور الحديث عن إينينفول لقيامه بتنويع المجلة، سواء من حيث موظفيها أو المساهمين فيها، إذ إنه استعان بأمثال كامبل وزادي سميث كمحررات مساهمات. قال إينينفول لـ"بي بي سي" قبل إطلاق أول عدد بإشرافه الذي تظهر على غلافه العارضة السمراء أدوا أبوا، "تتميز نسختي من فوغ بالشمولية... إنها تعكس التنوع، تظهر نساء مختلفات، أشكال أجسام مختلفة، أعراق مختلفة، طبقات اجتماعية مختلفة [و] التعامل مع الهوية الجنسية".
مع ذلك، لا تزال هناك عقبات يجب التغلب عليها. في عام 2020، تعرض إينينفول لمعاملة عنصرية عند دخوله مبنى "فوغ" من قبل أحد حراس الأمن الذي طلب منه استخدام استراحة عمال التوصيل. بعد الحادثة، فصل المعتدي الذي كان جرى توظيفه من قبل شركة أخرى، وأرسل طاقم العاملين في البناء على عجالة لحضور جلسات تدريب حول التنوع والشمولية. نشر إينينفول تغريدة حينها يقول فيها، "لمجرد أن مواعيدنا وعطلات نهاية الأسبوع لدينا تعود لطبيعتها [بعد الوباء]، لا يمكننا السماح للعالم بالعودة لما كان عليه... يجب أن يحدث التغيير الآن".
التغيير يحدث بالتأكيد. ليس فقط في "كوندي ناست"، لكن عبر صناعة المجلات اللامعة أيضاً. وبينما يقال إن رحيل المؤسسة عن مبنى "فوغ هاوس" يتعلق أكثر بالتطورات في الصناعة منه بخفض الكلف، فإنه ربما يمثل نهاية حقبة في عالم الصحافة المطبوعة. يقول كولريدج "لدي حنين شديد تجاه ذلك المبنى... ربما تكون هذه الخطوة منطقية، على كل حال، تتابع الأمور سيرها، كل شيء يستمر. لكن يا له من مقر استثنائي كان لدينا".