جهة القوة وجهة الضعف في حرب الشرق الأوسط

منذ 8 أشهر 107

لا تُقاس مسألة القوة والضعف في نزاع الشرق الأوسط، كما في كل نزاع، بميزان القدرات العسكرية البحتة المتوافرة لدى أطراف الصراع فحسب، ولا تُقاس بالنتائج الحربية الآنية فقط أيضاً، مهما بدت مهمة في الحاضر. ثمة عوامل عديدة أخرى يتوجب وضعها في الحسبان، سياسية ومجتمعية واقتصادية وثقافية، داخلية وخارجية، وثمة مسارات زمنية، تاريخية ومستقبلية، تضيء الحاضر المتفجر وما هو ذاهب إليه، لا بد من استيضاحها.

كيف ننظر في ضوء ذلك إلى الحرب القائمة الآن في الشرق الأوسط، سواء اتسعت وتصاعدت وتيرتها، أم هدأت واستكانت إلى حين؟

تدور حرب غزة بين طرفين، جيش الكيان الصهيوني من جهة، ومنظمتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» الفلسطينيتين، من جهة أخرى. لكن على مدى الشرق الأوسط الأوسع، من خان يونس إلى باب المندب، هي تدور بين جيش الكيان الصهيوني مدعوماً من الأساطيل الأميركية والغربية التي حضرت إلى الميدان فور اندلاع المواجهة، والتنظيمات المسلحة المرتبطة عضوياً بالنظام الإيراني، في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن. فكيف تبدو الصورة في عمقها؟

جهة القوة، في ما يخص الكيان الصهيوني، تملك الدولة العبرية قدرات عسكرية وتكنولوجية واستخباراتية بالغة التطور، وإن باغتها «طوفان الأقصى»، وتملك قدرات علمية وبحثية لافتة، إضافة إلى حيازتها منذ زمن السلاح النووي. وهي لا تتردد في توسل التدمير المنهجي، والتهجير الجماعي، بقسوة هائلة، كما جرى ويجري في حرب غزة. كما تحظى بدعم أميركي وغربي غير محدود، تكتيكي واستراتيجي، في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية وغيرها.

لكن، جهة الضعف، لا يستطيع الكيان الصهيوني التحرر من خطيئته الأصلية، التي تلاحقه على الدوام، في كونه نشأ حديثاً، قبل 75 عاماً، عبر تهجيره شعب فلسطين، وتنفيذه مشروعه الاستيطاني فوق أرضه، في زمن رحيل الاستعمار الغربي عن كل مكان، فكيف بالاستيطان؟ وأمام الخطر الديموغرافي الكبير الذي يحيط بها في الداخل والخارج، والتحول من الكمي إلى النوعي في المواجهات الحربية التي تهددها، تقف «إسرائيل العميقة» حائرة أمام خيارات عديدة وسبل متباينة، يصعب عليها سلوكها، أهمها خياران: القبول بالدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة العبرية، التي باتت مطلباً أممياً، أو التوغل حتى النهاية في مخطط التهجير والاستيطان الأقصى؟ ترى إلى أين؟ وجهة الضعف أيضاً، هذه الحاجة الحيوية الدائمة إلى الدعم الغربي لتأمين القدرة على المواجهة والاستمرار. فللدعم الغربي، من الناحية البنيوية، وجهان متلازمان، وجه القوة ووجه الضعف.

وسواء استطاع الكيان الصهيوني، في الحرب الدائرة، تحقيق أهدافه المرحلية الأربعة (القضاء على «حماس» و«الجهاد الإسلامي» كتنظيمين مسلحين، إبعاد «حزب الله» إلى ما وراء نهر الليطاني، منع انتفاضة الضفة الغربية، ومنع إيران من امتلاك السلاح النووي)، أو لم يستطع، فمأزقه الكياني سيظلّ بلا حلّ، وسيبقى مصيره يؤرّقه على الدوام على المدى الاستراتيجي.

جانب القوة في الجهة الأخرى، جهة «محور الممانعة»، المنطلق من النظام الإسلامي الإيراني، ثمة تطور حربي لافت، تصنيعي وتنظيمي وعملاني، متشعب الأسلحة والمخططات، أظهرته هذه الحرب، يشكل تحولاً بارزاً من الكمي إلى النوعي، في المصدر الإيراني أولاً، ومن ثم في التنظيمات المرتبطة عضوياً به، في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين. ولا شك في أن «طوفان الأقصى» هو الشاهد الأكبر على هذا التحول النوعي. كذلك صمود «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في غزة، وتكبيدهما الجيش الإسرائيلي خسائر موجعة، على الرغم من التدمير المهول الذي أصاب القطاع، وعلى الرغم من تلاشي القدرة على قصف الداخل الإسرائيلي. كذلك المواجهة الدائرة مع «حزب الله»، والتخوفات الإسرائيلية من الحرب الشاملة على حدودها الشمالية وحذرها من خوض غمار التوغل البري في لبنان، على الرغم من الخسائر البشرة النوعية التي لحقت بالحزب وما تعانيه القرى الحدودية من دمار. وجانب القوة أيضاً في هذا السياق، شهدت القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسوريا الكثير من هجمات فصائل «الحشد الشعبي» العراقي، قبل أن تطلب طهران من حلفائها التهدئة. ولعل الأبرز في هذا التحوّل من الكمي إلى النوعي، بعد «طوفان الأقصى»، هو حرب الحوثيين على سفن باب المندب والبحر الأحمر، المتهمة بالتوجه إلى إسرائيل، وعدم قدرة البحريتين الأميركية والبريطانية، المدعومتين من القطع البحرية الغربية الأخرى، على إيقافها.

ولا شك في أن التحدي العسكري الراهن الذي يواجه الكيان الصهيوني، كما يواجه الإدارة الأميركية، يدفع بنتنياهو، كما بالثنائي أوباما - بايدن، إلى التأمل في أحوال التاريخ ومساراته الخفية، خصوصاً حول الإفراط في فلسفة «فرّق تسد»، وكيف ينقلب فيها السحر على الساحر... سياسة «فرّق تسد» الإسرائيلية بين السلطة الفلسطينية و«حماس»، التي أسهمت في ظهور «طوفان الأقصى». وسياسة «فرّق تسد» الأميركية، بين العرب والفرس، وبين السنّة والشيعة، التي أسهمت في وضع تعاني معه أميركا والغرب اليوم الأمرّين، ليس في مواجهة إيران نفسها، بل في مواجهة إحدى أذرعتها، الذراع الحوثية.

لكن لهذا الجانب، جانب القوة في المحور الإيراني، وجهه الآخر، وجه الضعف والتفكك. ذلك أن التحول الحربي النوعي الذي حققته إيران ونقلته إلى التنظيمات المرتبطة بها في المنطقة، هو في طبيعته تطور عسكري بحت، وحيد الجانب، لا يأخذ في الحسبان اعتبارات التطور المجتمعية والحياتية والثقافية الأخرى، بل يتم غالباً على حسابها، مؤجّجاً خلافات مكوناتها ومعمّقاً تناقضاتها. وبسبب طبيعتها الفئوية، المذهبية غالباً، داخل دول لم تستطع تحويل جماعاتها أفراداً / مواطنين ولن تستطيع، تساهم التنظيمات المسلحة المتصلة عضوياً بإيران، المكونة خارج إطار الدولة، في تفكيك هذه المجتمعات، وتقسيمها، وإضعافها، وتبديد طاقاتها وثرواتها. خصوصاً أن هذه التنظيمات، سواء في المركز الإيراني أو في الأطراف، لا توفّر وسيلة لتحقيق غاياتها، إن كان في رفض الرأي الآخر وتخوينه، أو في القمع القاسي لكل معارضة واحتجاج، مهما بلغ اتساعهما الشعبي، أو في ممارسة الاغتيال بحق الوجوه السياسية والإعلامية، أو محاصرتها وعزلها، مهما بلغ شأنها. ويكفي النظر إلى الصعوبات البالغة التي تواجه المركز الإيراني في ضبط مجتمعه قمعاً وتخويفاً، لتلمّس مدى انغلاق الأفق المجتمعي. وتكفي أيضاً رؤية الحال المزرية التي وصل إليها لبنان وسوريا والعراق واليمن لإدراك ذلك، علماً أن تحرّك الميليشيات الإيرانية الهوى خارج إطار الدولة ليس هو العامل الوحيد في ما آلت إليه هذه المجتمعات، لكنه عامل مؤثر جداً بين عوامل أخرى. ولا شك في أن الانهيار اللبناني الداخلي الهائل، هو أهم تحوّل استراتيجي استفاد منه الكيان الصهيوني من دون حرب؛ إذ أزاح من طريقه خصمه الأساسي في التعددية المجتمعية والرسالة الثقافية، وفي الحريات ونوعية الحياة والتحديث والازدهار، والقدرة على التواصل العميق مع العالم العربي، وفي دور همزة الوصل بين المشرق والغرب.

وأياً كانت نتائج حرب الشرق الأوسط الدائرة الآن فلن تغيّر الكثير في هذه الصورة، ولن تُخرِج المجتمعات المعنية من متاهتها.