كأنها "سوشيال ميديا الحجاج" في زمن كانت فيه طرق التواصل شحيحة والرحلة المقدسة نفسها صعبة بدنياً وبالتالي نادرة، لتأتي عبارة "حج مبرور وذنب مغفور" التي تزين جدران بيوت من استطاعوا إليه سبيلاً وزاروا بيت الله الحرام لتأدية الركن الخامس من أركان الإسلام، تعلن وتسجل وتؤرخ لهذا الحدث المهم، الذي قد يأتي مرة واحدة في العمر، ولو بأدوات بسيطة وألوان محدودة ورسوم رمزية.
إنه غرافيتي من نوع خاص، هذه الكلمة التي عرفتها الجماهير عن قرب مع ثورة الـ25 من يناير (كانون الثاني) 2011، كنوع من الاحتجاج بينما كان الحراك السياسي على أشده، فتحولت جدران القاهرة إلى منشورات صارخة يعبر فيها كل واحد عن توجهه، سواء بعبارات حادة أو برسوم لوجوه طيبة أو حتى شرسة.
لكن فن الغرافيتي ضارب في القدم، فمثلما سجل الفراعنة على جدران المعابد إنجازاتهم ويومياتهم، استخدمه النشطاء للتعبير عن سخطهم واحتجاجهم، وفي ما بينهما كان زوار بيت الله يعتبرونه خطوة رئيسة تكمل فرحتهم، فهل لا يزالون بحاجة إلى هذا التقليد البسيط في وقت بات يضع الحجاج والمعتمرون صورهم بملابس الإحرام مباشرة على "إنستغرام" و"فيس بوك" و"تويتر"؟
أرشيف الرحلة المقدسة
في منتصف القرن السابع الميلادي دخل الإسلام مصر، تدريجاً ابتكر الشعب طرقاً تخصه للاحتفال بالمناسبات الدينية، من بينها الفوانيس في شهر رمضان وصنع الكعك في الأعياد والأهازيج والأغاني التي تصاحب رحلة الحج، وكان من بين تلك الطقوس أيضاً بصمة كف اليد بالدم عند ذبح الأضحية، وكأنها جدارية في أبسط الصور وأكثرها بدائية، ثم الرسوم التي كانت تمتد بطول البلاد وعرضها ابتهاجاً بزيارة الكعبة المشرفة، والآن تتقلص تلك الرقعة تماماً، إذ اختفت تقريباً من القاهرة والمدن الحضرية، بحسب ما يؤكد طارق الذي يعمل خطاطاً في منطقة شعبية بالعاصمة، لافتاً إلى أنه قبل 20 عاماً كانت جدران الحواري والشوارع في الحي الذي يسكن به تمتلئ بعبارات مثل "لبيك اللهم لبيك" و"حج مبرور"، ولوحات تجسد رحلات الحجاج والمعتمرين، والآن لم يعد أحد يطلب منه هذا الأمر، بل تحول نشاطه إلى كتابة لافتات في موسم الانتخابات وتنفيذ جدرايات على أسوار المدارس، إضافة إلى الدعاية والإعلان للمحال التجارية.
الفنان التشكيلي أحمد الأسد يقول أيضاً إنه على مدار 25 عاماً عاشها في القاهرة لم يرسم سوى ثلاث جداريات فقط على منازل الحجاج، مشيراً إلى أن تلك الرحلة لم تعد تلقى هذا الزخم أو تلك الحفاوة القديمة أبداً بين القاهريين، لكن في صعيد مصر فإن الأمر مطلوب بشدة لتأريخ رحلات الحجاج والمعتمرين على واجهات المنازل الخارجية وفي المدخل أيضاً، إذ لم يعد الرسم بسيطاً مثلما كان في السابق، بل تحول إلى لوحة تشكيلية كاملة.
على رغم التحديات
الفنان محمود أحمد عبدالعزيز، وهو خطاط موهوب، يعيش في تلك الأيام حالاً من الانتعاش والنشاط ووثق بريشته رحلات حج عديدة في محافظة قنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يؤكد عبدالعزيز أنه درس الخط العربي لست سنوات في معهد الخط العربي، كما درس لبعض الوقت في كلية الفنون الجميلة من أجل أن يضع موهبته على الطريق الصحيح، إذ كان منذ طفولته يتمتع بخط جميل، لافتاً إلى أنه يتمسك بمهنته على رغم التحديات، كما كان يتمنى أن يرث أحد أبنائه الأربعة مهنته التي باتت تنتمي لمهن التراث حالياً، لكنهم جميعاً اختاروا مجالات دراسة بعيدة من مجاله.
في قنا حيث لا يشعر الحاج باكتمال فرحته إلا بعد أن يجد جدران منزله مزينة برموز تلك الرحلة، يتسابق الخطاطون والرسامون لابتكار كل جديد، إذ باتت الرسوم أكثر احترافية بحسب ما يؤكد الفنان التشكيلي أحمد الأسد، مضيفاً أنه لا ينسى أن أحد الحجاج، وكان أدى المناسك منذ سنوات عدة، طلب منه أن يعيد رسم جداريته على واجهة منزله من جديد بعد أن بهت لونها وباتت جدراية جاره أكثر جمالاً واحترافية.
كذلك يؤكد الخطاط محمود أحمد أنه بالاشتراك مع زملائه قاموا بكثير من لمسات التطوير على العمل الخاص برسوم وكتابات رحلة الحج، وهي تتنوع بين الآيات القرآنية والأدعية الدينية، إذ أضيفت بعض اللافتات التي تعلق عند مدخل المنزل تحتفي بتلك الرحلة، لأنها ليست مجرد سفرية عادية وإنما رحلة العمر بالنسبة إلى كثيرين.
جمل وسفينة وطائرة
مر هذا الفن بمراحل مختلفة وفقاً للمتغيرات، إذ كان في البداية رسم جمل يرمز إلى وسيلة التنقل حينها ثم سفينة، وفيما بعد أصبحت الطائرة هي وسيلة انتقال الحجاج إلى مكة المكرمة. ويشير الخطاط والفنان محمود عبدالعزيز إلى أنه على رغم سهولة قيام أجهزة الكومبيوتر بتنفيذ مختلف أنواع الخطوط العربية، يبقى الخط اليدوي أكثر جمالاً وابتكاراً ويحمل روح صاحبه.
يرى الأديب صلاح سليمان، الملقب بشاعر الحارة المصرية، أن تلك الطريقة المستقاة من الحضارة الفرعونية في ما يتعلق بالاحتفال بأداء ركن مهم من العقيدة، هي طريقة فطرية تماماً، معترفاً بأنها كادت تندثر في المجتمعات القاهرية وفي المدن الكبيرة بالمحافظات، ومع ذلك هناك بعض الشوارع في المناطق الشعبية تمثل أرشيفاً حياً لهذا الفن التراثي الذي عرف في القرن الـ19 على ما يبدو.
"الحاجة آمال خضري والحاج علي صابر توفيق". هكذا تبدأ المباركات من حائط البيت قبل أن يعود الحاج سالماً مطمئناً لأرض الوطن، إذ إن كتابة التهنئة باسم الحاج كاملاً شرط أساس من شروط اكتمال هذا الديكور، وفي ما تفضل أغلب المناطق الريفية النداء على النساء بأسماء الأبناء أو بألقاب أخرى، فإن رحلة الحج تذيب تلك العادات ليظهر اسم المرأة صريحاً تقديراً لأدائها الفريضة.
ومن خلال انخراطه في هذا العمل يشير الفنان التشكيلي أحمد الأسد إلى أنه على رغم انتعاش تلك المهنة في الصعيد والأرياف بعكس المدن الكبرى، فإن الطلب عليها مع ذلك أقل مقارنة بـ15 عاماً مضت، إذ يشرح أن طريقة تنفيذ بعض البيوت وتزيينها من الخارج لا يجعلها مؤهلة للكتابة والرسم عليها، فقد كان الأمر يسيراً حينما كانت المنازل مبنية من الطوب اللبن، ولكن مع تطور البناء هناك بعض الحوائط الخارجية التي تنفذ بأسلوب يجعل اللون غير ثابت بالمرة مما يصعب المهمة كثيراً.
بهجة الحج الأبدية
وحول كون تلك المهنة يمكن أن تعيل صاحبها في هذا العصر الذي يستسهل فيه كثيرون الطرق التكنولوجية الأكثر سرعة ودقة وإنجازاً، يقول الخطاط محمود عبدالعزيز إن المهنة لا تزال مجزية بخاصة أن عمله فيها لا يقتصر على موسم الحج فقط، وإنما تزيين الجداريات المختلفة للمساجد أو المدارس أو المؤسسات الخيرية وكذلك تصميم لافتات الدعاية والإعلان.
إذاً فالطريقة الشعبية للاحتفاء بالرحلة المباركة تعتبر وسيلة للحفاظ على الهوية البصرية، ويجدها شاعر الحارة المصرية صلاح سليمان بمثابة تذكار للأبناء والأحفاد يسهم في صنع حال من البهجة الأبدية، إذ يحافظ أهل البيت على تلك الرسوم مهما مرت السنوات، كما يرى أنه مع قلة الإمكانات قديماً وندرة السفر لأداء الفريضة كان الناس يلجأون لتوثيقها بكل الطرق الممكنة، إعلاناً منهم بتمكنهم من أداء الشعائر وإيماناً بعقيدتهم وتعبيراً عن سمو أرواحهم.