يعد جبل قاسيون جزءاً حيوياً من أجزاء العاصمة السورية دمشق وأعظم مظهر من مظاهرها، إذ يرد كثيراً في الروايات والقصص التاريخية والدينية، كما كان له حصة الأسد من الأساطير المصبوغة بالصبغة الدينية. وبحسب الوصف الجيولوجي هو هضبة محدبة غير متناظرة تشكلت في أول مرحلة من العصر الطباشيري المتأخر "حقبة الكريتاسي السينوماني".
موقعه
ويتصل الجبل من جهة الغرب بسلسلة جبال لبنان ومن الشمال والشرق بسلسلة جبال قلمون الممتدة إلى منطقة حمص، كما يشرف على الغوطة. ولقاسيون سفحان يفصل بينهما نهر "يزيد"، الأول يقع على ضفته الشمالية ويسمى السفح الأعلى، وهو سفح واسع كبير خال من الماء، أما السفح الأدنى فهو على الضفة الجنوبية وهو سفح مزدهر ونضر. ويتموضع في الجهة الجنوبية الغربية نصب الجندي المجهول، كما تتربع على سفوحه أحياء سكنية شهيرة منها، حي ركن الدين (الأكراد) والشعلان والمالكي وأبو رمانة والشيخ محيي الدين والروضة والصالحية والمهاجرين والشركسية والجسر الأبيض وعرنوس والعفيف وغيرها، ويضم مجموعة مغارات طبيعية مثل مغارة الجوعية والأربعين أو مغارة الدم والشياح، ويمر في سفحه نهرا "يزيد" و"ثورا".
تسميته
أطلق الجغرافيون والرحالة العرب أسماء أخرى على جبل قاسيون مثل جبل الأنبياء وجبل الشام وجبل التين وجبل دمشق، أما عن سبب التسمية الحالية، فتعتمد معظم الأبحاث على التفسير الذي ذكره سبط ابن الجوزي والمستمد من القساوة، إلا أن هذا التفسير بقي معلقاً بين الرواية الدينية التي تقول "هو قاس لأنه لم يسمح بأن تؤخذ منه الأصنام"، والرواية الاجتماعية التي انطلقت من قساوته لعدم نمو الأشجار فيه.
لكن يعتقد أيضاً أن الاسم غير مستمد من العربية، إذ يذكر الكاتب والمؤرخ قتيبة الشهابي في دراسة تاريخية ولغوية عن مواقع دمشق القديمة، أن تسمية "قاسيون" وردت في أقدم المصادر العربية بدءاً من القرن الأول الهجري، غير أن بعض المصادر أوردته أحياناً باسم "قيسون" أو "قايسون"، ومثال على ذلك ما ورد في الشعر "بنت قيسون" وهو لقب خوطبت به دمشق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذا ما يجعل "قيسون" أقرب إلى التركيب اللغوي الآرامي "قيصون" ويعني "نهائياً" أو "أقصى". ويرجح أن تفيد هنا معنى الحد الأقصى للمدينة، ويقابل هذا الاشتقاق في العربية "قاص، أقصى، قصي"، ولعل انقلاب الاسم قد تم بإبدال الصاد سيناً، وهما من الحروف الأصلية في اللغات السامية، وهذا أمر وارد ومعروف لدى دارسي هذه اللغات.
وبالنسبة إلى تحول الاسم من "قيسون" إلى "قاسيون"، يرجح أن يكون قد حدث في العصر الهلنستي، إذ إنه أقرب إلى النطق باللسان اليوناني بإشباع حروف العلة بحيث تصبح Kasayon أو Kassyon بدلاً من Kysson.
ومن المحتمل أيضاً أن يكون اشتقاق اسم الجبل من الجذر الآرامي "ق ش ا" الذي يفيد القسوة، وعلى ذلك يكون معنى اسم قاسيون "القاسي"، وهذا يؤيد ما كتبه الأب أيوب سميا: "قاسيون كلمة سريانية (قشيونو) معناها القاسي الجاف، وهي صفة هذا الجبل الصخري الأجرد الذي لا عشب فيه ولا خضرة ولا ماء".
جبل دمشق
في بحث تاريخي قديم للمؤرخ الدمشقي محمد أحمد دهمان، يتحدث كيف أسهمت مياه دمشق في استقلال هذا الجبل، وجعله جبلاً خاصاً في مدينة دمشق، إذ قامت مياه بردى مع مياه الفيجة وبمساعدة مياه السيول والأمطار في فصل الشتاء، بفصل قاسيون عن جبل المزة المتصل بجبال الشيخ وحوران، حتى فتحت خليجاً تنساب فيه وتمر منه، ثم جاء الإنسان ليسهم في توسيع هذا الخليج ورصف ضفته، حتى أصبح طريقاً سهلاً للسيارات والقطارات، فاتصلت دمشق ببيروت وبحار المياه ببحار الرمال.
كما عملت مياه قرية منين على فصل هذا الجبل من جهة الشرق عن سلسلة جبال القلمون، ففتحت لها ممراً فيه كمياه بردى، وبذلك أصبح هذا الجبل خاصاً بمدينة دمشق، يعرف بها وتعرف به، ويعرفه ياقوت الحموي بعبارة "قاسيون الجبل المشرف على مدينة دمشق".
المسكن الأول
وفيما بعد تجمع في شمال الواحة الخصبة التي عُرفت بعد ذلك باسم "الغوطة"، الإنسان القديم ليزرع حول هذه المياه مبتعداً قليلاً عن مضيق الوادي ليؤمن على نفسه ومزروعاته من تيارات السيول. وبسبب حاجته إلى تأمين نفسه وماشيته وإلى بيت يأوي إليه، كان أقرب موضع يصلح لذلك هو جبل قاسيون، حيث تسيل المياه تحت أقدامه، ويبدو سفحه قليل الانحدار فيسهل تسلقه ومراقبة كل ما يحدث في السهل المنبسط شرقاً وغرباً وجنوباً، لذا سكن الجبل والتجأ إلى ما يحتويه من كهوف ومغاور، وما أسطورة مغارة الدم في هذا الجبل إلا حلقة من سلسلة تاريخه القديم.
وبذلك نرى بحسب دهمان، أن أهل دمشق سكنوا هذا الجبل قبل أن يسكنوا دمشق، وعاشوا فيه أجيالاً طويلة، ثم هبطوا إلى السهل المنبسط أسفله وبنوا مدينتهم، ولكن مدينتهم الأولى هي قاسيون، حيث نشأوا أولاً.
بين الأساطير والأنبياء
أحيط جبل قاسيون بكثير من الأساطير الغريبة، وربطوه بقصص وأماكن منسوبة إلى عدد كبير من الأنبياء، إذ بين سفح قاسيون الأدنى حيث كان يسكن أبو البشر آدم وأعلاه حيث قتل قابيل أخاه هابيل، قصص يكتنفها جو من الفانتازيا والإبهار، وربما يتجلى الوصف الأكثر إبهاراً في رحلة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" لابن بطوطة، الذي ذكر موضع قاسيون قائلاً، "وقاسيون جبل في شمال دمشق والصالحية في سفحه، وهو شهير البركة لأنه مصعد الأنبياء، ومن مشاهده المباركة الغار الذي ولد فيه إبراهيم، ومن ذلك الغار رأى الكواكب والقمر والشمس، ومن مشاهده بالغرب منه، مغارة الدم وفوقها بالجبل دم هابيل، وقد أبقى الله منه في الحجارة أثراً محمراً وهو الموضع الذي قتله أخوه به، واجتره إلى المغارة. ومنها كهف بأعلى الجبل ينسب لآدم وعليه بناء وأسفل منه مغارة تعرف بمغارة الجوع، يذكر أنه أوى إليها سبعون من الأنبياء، ويذكر أن في ما بين باب الفراديس وجامع قاسيون مدفن 700 نبي وبعضهم يقول 70 ألفاً، وفي آخر جبل قاسيون الربوة مأوى المسيح عيسى وأمه".
هذه الأساطير وغيرها من القصص والأحاديث المروية في قدسية وفضائل المكان، التي راجت في القرون الوسطى، لم تختص بدمشق وحدها، بل كانت اتجاهاً دينياً شائعاً في كثير من البلاد والأماكن.