أسماء لا تغيب عن دنيا الوجود البشري؛ فالتاريخ له مكونات جيولوجية تطال بعضها عوامل التعرية، وأخرى لها قدرة مقاومة لا يزيلها هدير الزمان. شخصيات لعبت أدواراً في عالمنا على مر السنين. منهم من قاد حروباً محلية، ومنهم من تقدم أرتال جيوشه في معارك قارية، أو حروب عابرة للقارات. خرائط العالم التي نعرفها اليوم، وُلدت أغلبها من رحم الحروب. القرن العشرون المنصرم، شهد حربين عالميتين. في الأولى خاضت إمبراطوريات حرباً غير مسبوقة، أطلق رصاصتها الأولى شاب صربي متعصب على ولى عهد الإمبراطورية النمساوية - المجرية. انطلقت الحرب العظمى من منطقة البلقان لتتسع وتمتد في أوروبا وخارجها. انتهت تلك الحرب بما عُرف بمؤتمر فرساي، لكن في ذلك المكان الفرنسي، وُلدت شرارة الحرب العالمية الثانية. البلقان كانت قدّاحة الحرب العالمية الأولى، وعلى أرضها دارت معارك الحرب العالمية الثانية. الحرب الأولى أسست دولاً جديدة، وأعادت تشكيل هويات وطنية، بعضها غاضب تفجرت في صفوف شعبه نيران المظلومية، واستفزته هزات الإهانة.
الزعيم شخص له تكوين خاص ومتفرد. كل ما فيه هو ذاته. يصبّ تكوينه المركب في إناء الوطن، ويسكب الوطن في أوعية طموحه الذاتي. الوعي بمسارب العبور إلى أحلام، وحتى أوهام عامة الناس، تحتاج إلى قدرات فردية ذاتية خاصة، تبدأ بولادة الزعيم داخل ذاته. الشعوب المكسورة لأي سبب كان، وكذلك الشعوب التي توقن أن لها من القدرات التي ترفعها على الآخرين، تتحرك مشاعرها بقوة انتظاراً أو بحثاً عن الرجل الاستثنائي الأسطوري؛ ليحقق الأحلام على الأرض، أو يحمل على كاهل عبقريته آيديولوجية عبر فضاءات خارج الوطن.
لم يكن القائد العسكري الفرنسي الجنرال نابليون بونابارت، هو أول من خاض حروباً خارج أرض وطنه لينشر فكر الثورة الفرنسية داخل أوروبا وخارجها. حقق انتصارات باهرة في بداية اندفاعة في ألمانيا وإيطاليا وغيرهما، لتكتمل عظمة زعامته الشخصية، لا بد من تحقيق النصر الأسطوري، لا بد من احتلال كيان له قدرات اقتصادية كبيرة، ومساحة جغرافية متميزة، تجعله السيد الأول والأقوى في العالم. جنّد الجنرال نابليون بونابرت مئات الآلاف من المقاتلين، وتقدمهم نحو الأرض التي ستضع فوق رأسه تاج التاريخ والزمان والمكان. عند الزعيم يتساوى البشر والخيول، فكلهم مجرد كائنات تحمله نحو مدايات مجده الشخصي الذي لا يرى شيئاً في الدنيا سواه. تكدست جثت البشر والخيول الفرنسية فوق ثلوج روسيا، ورضي الزعيم الجنرال من الغنيمة الحلم، بالعودة إلى فرنسا.
ألمانيا التي هُزمت عسكرياً في الحرب العالمية الأولى، ظلت مطارق الخسارة العسكرية، تضربها بعد سكوت السلاح. عقوبات وحصار واقتطاع أجزاء من أراضيها، ومجاعة لها نفس في الصدور، شهيقه الإهانة. الزعيم هو نبتة زؤان صغيرة تنمو وسط حقول الطموح أو الإحباط لا يراها الناس، الذين ترتفع أنظارهم إلى ما علا من النبات. حشائش بشرية صغيرة تنمو في تربة الإحباط، وتمد وريقاتها وأشواكها في حقول اليأس العام، فتصير هي الأقوى بسماد الإحباط المتراكم. هناك نبتَ شبحُ قادم من ميدان الهزيمة الألمانية الثقيلة. العريف أدولف هتلر الذي دفعه الفقر والفشل، من النمسا إلى ألمانيا، حيث التحق بالجيش الألماني، وقاتل في الحرب العالمية الأولى برتبة عريف. عاد إلى ألمانيا المهزومة المكلومة الجائعة، كان الحقل والعقل في حالة ضمور تسري فيهما ديدان اليأس. حتى الغضب طاله الوهن، والأصوات جفت في الحناجر. تسلل العريف إلى صفوف التكوينات الحزبية المتصارعة، كل ما يملكه صوته الذي يصرخ وقبضة يده التي تلطم الفراغ. اتسعت دائرة المستمعين، وتجمع حوله الغاضبون من مخرجات مؤتمر فرساي. أتقن صناعة الألغام السياسية وزراعة الأحقاد في صفوف المجتمع الألماني، لكنه امتلأ منذ بدايته السياسية ببخار الزعامة الذي دفع محرك العنف بداخله. لقد استطاع أن يوظف حالة الإحباط الوطني لخدمة مشروعه الزعامي الذاتي. نجح في تعبئة قدرات الشعب الألماني، وأن يحوله آلة صناعية حربية، ويحشد الملايين لخدمته. طالب بجزء من جمهورية تشيكوسلوفاكيا، وحصل على ما أراد في مؤتمر ميونيخ. أدرك أن بإمكانه أن يحقق مبتغاه الزعامي في قارة أوروبية يسوسها قادة يهابون الحرب. هاجم بولندا وعندما أعلنت عليه بريطانيا وفرنسا الحرب، هاجم فرنسا واحتلها في أيام معدودة. صار طموحه الزعامي أكبر وأوسع. الاتحاد السوفياتي القارة الغنية، حيث النفط والغاز وكل الخامات، وحيث العدو الأكبر وهو الشيوعية، ذاك هو تاج المجد ولا بد من الاستيلاء عليه. دفع هتلر بأكثر من ثلاثة ملايين مقاتل ألماني وآلاف المدرعات والطائرات، واقتحم مناطق شاسعة من أراضي الدولة الشيوعية الأولى والأكبر في العالم. بعد سنوات من القتال العنيف، دخلت القوات السوفياتية إلى برلين ومعها قوات الحلفاء، وتوج هتلر مجده الزعامي الوهمي بالانتحار.
في إيطاليا التي عُدت من المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، لم تنل سوى الجوع والبطالة والفقر. قفز إلى السلطة حزب تزعمه شاب أرعن مشاكس فاشل هو بنيتو موسوليني. هرب من الخدمة العسكرية إلى سويسرا، وعاش فيها متشرداً ينام تحت الكباري. قُبض عليه وأعيد إلى إيطاليا. انتمى إلى الحزب الاشتراكي، وقام بتأسيس حركة الفاشية (الحزمة). زحف أنصاره على مدينة روما التي كان ملكها مرعوباً خوفاً من المد الشيوعي، وكلف موسوليني القوي المتطرف رئاسة الحكومة. قضى الحزب الفاشي على كل المعارضين، وخاض حروب خطابات تبشر بإعادة العظمة الرومانية. بعد وصول هتلر إلى الحكم في ألمانيا، أقام معه ما عُرف بالحلف الحديدي. بعد استيلاء هتلر على فرنسا في حرب قصيرة خاطفة، هاجت عشيبات الزعامة في روح موسوليني (الدوتشي) وأرسل قواته إلى فرنسا دعماً لهتلر. كي لا يبقى بعيداً عن نصيبه مما حققه هتلر من انتصار، أرسل قواته إلى اليونان ليقاسم هتلر تاج الزعامة، وهناك تكبد جيشه هزيمة منكرة، فطلب الدعم من حليفه الزعيم الألماني. لم يوقف موسوليني قفزاته العسكرية الخيالية، فهاجم القوات البريطانية في مصر انطلاقاً من ليبيا. خسر الآلاف بين قتلى وأسرى وجرحى، فطلب العون مرة أخرى من هتلر، وحلّت الهزيمة في معركة العلمين بالاثنين. انتهى موسوليني الزعيم معلقا بقدميه بميلانو.
زعيم آخر برز في تلك الحرب العالمية التي كلفت البشرية ملايين القتلى. ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا. كان الشخص والمعنى الآخر للزعيم. وقف بمفرده في وجه قوة المحور. وكان من لعب الدور الحاسم في مواجهة الفاشية والنازية. لكنه خسر في أول انتخابات خاضتها بريطانيا بعد النصر. قال له البريطانيون: نحن لا نريد زعيماً، بل نريد رئيساً لمجلس إدارة المملكة. اختلفت الحقول، ونمت العقول. رحلت عهود الزعامة بكل من فيها وما فيها.
ثمن الزعيم هو الملايين من القتلى وجبال الدمار وانهار الدموع.
قال كارل ماركس: التاريخ يعيد نفسه مرتين. الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة.