ثقافة الحرية اللبنانية وسط الأعاصير

منذ 11 أشهر 135

حين أفتح النافذة الشرقية وأرنو إلى جنائن البرتقال، وبعدها سهول الزيتون، وصولاً إلى جبال لبنان، التي بدأت تكلّل قممها الثلوج، أشعر عميقاً بنعمة الحرية، التي بالرغم من توالي الانهيارات وتقسيم البلاد، ما زلنا نعيشها فيما بقي من دولة «لبنان الكبير». وهي حرية مستمرة في عائلتنا منذ أربعة أجيال، ومثلها مئات آلاف العائلات، أقله منذ قيام «الصيغة اللبنانية» عام 1861 مع دولة «لبنان الصغير» على مدى 162 عاماً، حتى اليوم. أن يكون لك المعتقد الذي تريد، أن تعبّر عن رأيك، أيّاً كان، أن تقرأ ما تشاء، أن تتمتع بحرية التنقل والسفر والعودة في الداخل والخارج، بلا قيد ولا شرط، أن تربّي أولادك وترسلهم إلى المدارس والمعاهد التي تختارها وتختارونها بملء إرادتكم، أن تتفهم الآخر المختلف وتقبله وتتفاعل معه، أن تكون متجذراً في أرضك منذ مئات السنين ومنفتحاً على إنجازات العصر والعالم، وأشياء كثيرة أخرى يطول تعدادها.

برزت هذه الثقافة في الحقيقة قبل 1861 بكثير. منذ السنوات 1584، حين بدأ أهل جبل لبنان يرسلون أولادهم المتفوقين لتلقي العلوم الحديثة في روما، في مستهل النهضة الأوروبية وفي مصدرها، أي قبل قرنين من حملة بونابرت على مصر التي ألقت بذور الحداثة في بلاد النيل. شكلت أفواج خريجي روما اللبنانيين المتوالية على مدى القرنين السابع والثامن عشر أوّل رسل التفاعل بين الشرق والغرب في الأزمنة الحديثة، وكانت لهم مهمتان كبيرتان: الذين استقروا منهم في أوروبا أطلقوا علم الاستشراق العربي والسرياني وحركة الترجمة في باريس وروما وفلورنسا وفيينا ومدريد وبراغ وغيرها، والذين عادوا إلى وطنهم أطلقوا حركة التعليم وأسسوا أولى مدارس المشرق، وأهمها مدرسة عينطورة ومدرسة عين ورقة، اللتان كان لخريجيهما من بساتنة وشدايقة وسواهم الدور الرائد في النهضة المشرقية العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

وقبل ذلك كله، تنبثق ثقافة الحرية من معطيات طبيعية وجغرافية وتاريخية راسخة، لا مجال هنا للتوسّع فيها. كان مئات الرحالة الأوروبيين الذين توافدوا إلى جبل لبنان يدهشون لظاهرة العمران الزراعي، من استصلاح الأراضي الجبلية الوعرة، واستنباط وسائل الري، وطرق جني المحاصيل ووفرتها، وتطور الصحة العامة، ويفسرونها، على حد تعبير فولني، بـ«نسائم الحرية»، التي تهب على هذا المكان من دون سواه من أنحاء السلطنة العثمانية.

لكن ثقافة الحرية اللبنانية، على فرادتها وأهميتها، هي في نهاية المطاف سلاح له حدّان.

في حدّه الأول، حد الريادة والإبداع، أعطى الكيان اللبناني مجتمعات المشرق، طوال حقبة «لبنان الصغير»، ثم «لبنان الكبير»، على مدى أكثر من قرن من الزمن (1861-1975)، أهم الإنجازات النهضوية والمعرفية والفنية والصحية والاقتصادية والحياتية التي شهدتها المنطقة. أتاحت ثقافة الحرية إطلاق طاقات المجتمع اللبناني، الذي يعود إليه، أكثر بكثير من الدولة، تحقيق تلك الإنجازات. ومنذ عام 1832 أدرك لامارتين حيوية مجتمع جبل لبنان، قياساً لمجتمعات المنطقة في حينه، فذكر في كتابه «رحلة إلى الشرق»: «في مصر وجدت رجلاً (يقصد الحاكم)، في لبنان وجدت شعباً».

في المكان اللبناني، بين جبل لبنان وبيروت، قامت النهضة الفكرية العربية وحركة مواجهة التتريك. ومنه انطلق التعليم العالي، مع الجامعتين الأميركية واليسوعية، واحتضانهما خريجي عينطورة وعين ورقة. ومنه انطلقت حركة التعليم العام، لمدارس الذكور والإناث على حد سواء، في ازدهار الإرساليات ثم المدارس الوطنية. وفيه استعادت لغة الضاد تألقها، مع اليازجيين والبساتنة وسواهما، بعد «عصر الانحطاط» الطويل، قبل أن يتولى أدباء لبنان ومترجموه صوغ اللغة العربية الجديدة، التي كرستها «مدرسة الأدب اللبناني»، المقيمة والمهاجرة، فكان الانتقال من لغة مقامات ناصيف اليازجي إلى لغة جبران خليل جبران وأترابه. وقد أضحت هذه اللغة الجديدة هي لغة الأدب والفكر والعلم والصحافة في أرجاء العالم العربي، من المحيط إلى الخليج. وفي المكان اللبناني عينه ولدت الصحافة العربية وبات هو عاصمتها، وبات هو منطلق الطباعة العربية وعاصمتها، وبات هو منطلق فن الرسم ورواده المبدعين الكثر، كذلك المسرح، ومن ثم الشعر الحديث، كذلك الإسهام الكبير في الموسيقى والغناء العربيين، وبات هو أيضاً مستشفى العرب، ومصرفهم، وفندقهم، ومحطّ ذكرياتهم وأحلامهم، وملاذ المعترضين منهم ورافعي راية العقل النقدي، ممن احتموا بواحة حرياته.

لكن، مقابل حدّ الإبداع والريادة في ثقافة الحرية اللبنانية، هناك حدّ الاضطراب والقلق الكبير. وهو واصل الآن إلى ذروته وسط الأعاصير والمخاوف المرافقة تداعيات «طوفان الأقصى».

على مرّ الزمان، لم تكن المهمة سهلة. أن تقيم نظام حريات محاطاً ومحاصراً من كل صوب بالأنظمة الأمنية التي تتوق إلى اختراقه وإسقاطه. وإذا حوّلت نظام حرياتك نظاماً أمنياً مماثلاً لما هو حولك، يصبح بإمكانك الصمود، وحتى ربما اختراق سواك، كما بدأ يفعل «المكتب الثاني» في العهد الشهابي، لكنك تكون خسرت نفسك وتخليت عن هويتك الفردية والجماعية وعن معنى وجودك. كما يستحيل الجمع بين نظام الحريات والنظام الأمني في توليفة واحدة، في محيط أمني مطبق، لأنه سرعان ما سيطغى الجانب الأمني على جانب الحريات ويسقطه. لقد اصطدم نظام الحريات في كل مرة بالنظام الأمني السائد في المحيط، وبامتداداته المجتمعية داخل المكان اللبناني، من النظام العثماني، إلى النظام الوحدوي الناصري، إلى المد الفلسطيني المسلّح داخل لبنان، إلى الاقتحامات والاحتلالات الإسرائيلية المتوالية، إلى نظام «البعث» السوري، وصولاً إلى النظام الإسلامي الإيراني.

لبنان وسط الأعاصير، مقسّم بين ما بقي من دولة لبنان الكبير من جهة، ودولة «الثنائي الشيعي» من جهة أخرى بإمرة «حزب الله». والاختلال بينهما كبير لصالح دولة «الثنائي»، حيث يمسك «حزب الله» بقرار الحرب والسلم وبمصير لبنان. والتناقض عميق بين ثقافة الحرية اللبنانية والثقافة المذهبية الأحادية. فهل هي آخر أيام ثقافة الحرية؟

في ظل اختلال ميزان القوى بين سلطة «لبنان الكبير» وسلطة ولاية الفقيه، بات الكثيرون لا يدركون مدى تجذر ثقافة الحرية في المكان اللبناني، ومدى استحالة نزعها منه. فالمسألة أعمق بكثير من التوازنات، أو الاختلالات العسكرية والسياسية. هي مسألة روح أرض، وروح شعب. ونمط الحياة اللبناني، المرتكز إلى ثقافة الحرية، سلاحٌ خفي، سحري، تصعب مواجهته. ليس في بيئة لبنانية واحدة، بل لدى كل الذين عرفوا هذه التجربة وعاشوها.