يتقبّل اللبنانيون أي إهانة لهم على أنها نوعٌ من المزاح إلاّ أن يُهانوا بذكائهم؛ فهذه لا تحلّها إلاّ المبارزة حتّى الموت كما في أوروبا القديمة. ومن أشهر ما حدث في باب الإهانات يوم كتب الشاعر أنسي الحاج رسالة مفتوحة إلى الرئيس شارل الحلو، بدأها بالقول: «إنهم يستحمرونك ويستحمروننا يا فخامة الرئيس». هنا، لم تعد عبارة التفخيم قادرة على ردّ الإهانة، فطالب الرئيس بسجن الشاعر، ثمّ تذكّر سريعاً أنه شاعر أيضاً وصحافي لاذعٌ درج فيما مضى على استحمار الكثيرين من الزملاء والخصوم.
استبيح اللبنانيون في السنوات الأخيرة في كلّ شيء بما في ذلك «شطارتهم» و«حربقتهم» وما يسمّيه المصريون «حداقتهم». أكثر من برع في هذا، كان حاكم البنك المركزي الذي اخترع للدولار أسماءً وأوصافاً وألقاباً تُشبهُ جميعها ألقاب ومواصفات أبو عبد البيروتي، المعروف للأصدقاء «بأبي العبد». فمنذُ أن بدأت أزمة النقد والاقتصاد والحياة، بدأت معها لُعبة التسعير وفقاً لقوانين لا وجود لها في عالم المال، في أي تاريخ من التواريخ، وفي أي بلد من البلدان.
بدأ سعادتهُ بعملية التسعير بإعلان «الدولار الجمركي»، ثمّ ابتدع شيئاً سُمّي «دولار الصيرفة»، ثمّ سمعنا عن «الدولار المنصة»، وفي هذه الأثناء كان الدولار نفسه يصعدُ ويهبطُ ثمّ نسي حركة الصعود، وراحت الليرة اللبنانية تهبط من دون مظلّة إلى أن فقدت 98 في المائة من قيمتها.
أصابنا ما أصاب جميع اللبنانيين في ولاية سعادة الحاكم أو... الوالي. وعندما تدهورت حالتنا مثل حالة البلد سألت صديقاً مصرفياً، ما العمل؟ فقال: إن القاعدة القديمة لا تُخطئ، وخُلاصتها أنّ العقار هو الملاذ الأفضل. وزاد على ذلك أن الهرب الأسهل هو شراء الأسهم في شركة عقارية كبرى. ولم أتردّد. ثمّ بدأنا نسمع عن تسمية غريبة للدولار تُشبه أسماء التحبب والدلع، وهي «اللولار». ولم أشعر بفضول كافٍ لكي أعرف ما هو المسمّى الجديد، ولا عدتُ أتفقّدُ ثروتي العقارية، وقررتُ أن أضعها إلى جانب «اللبنانيات» الأخرى من عجائب وغرائب ومصائب. وقبل أيّام استدعاني المصرف من أجل تسوية حساباتي وحسابات العائلة، فقد نقص من أحدها عشرة دولارات لا بدّ من تسديدها.
وقالت لي السّيدة المسؤولة، من باب التعزية، إن حسابي في «اللولار» بلغ أرقاماً هائلة بسبب الإقبال على السهم العقاري، وأنني أصبحتُ مليونيراً ومن الطبقة التي تحلو سرقتها. وعندما قالت لي الرّقم، كاد يُغشى عليّ، لكنني تجالدتُ على البقاء صاحياً، وخرجتُ من عندها محمولاً على أجنحة النسور، لا يفصل بيني وبين إيلون ماسك سوى بضعة أرقام وفواصل لا أهمية لها. واتّصلتُ على الفور بزميل اقتصادي أسأله ما هي القيمة الحقيقية لثروتي «اللولارية»، فقال ما معناه إن مبلغ الـ 50 ألف دولار الذي اشتريتُ به الأسهم أصبح نحو الـ35 ألفاً. تماماً مثل التوقيت الصيفي والتوقيت الشتوي. ساعة تسبقُ ساعة، وساعة تتأخّرُ عن ساعة، وإذا النتيجة واحدة كما في كلّ شيء آخر: صفرٌ يُضاف إلى مجموعة الأصفار الأخرى.
انتشرت في بريطانيا في القرن السابع عشر طبقة من «الدراويش» عُرفت بالمرنّمين واسمها بالإنجليزية «Lollard»، أي بزيادة حرف الدال فقط على «اللولار» اللبناني، وبذلك أكون أنا واحداً من المرنّمين اللبنانيين للعقار والليرة وما حلّ بهما.