ثالث اختبار تدخله طالبان

منذ 1 سنة 275

في 15 أغسطس من السنة الماضية عادت حركة طالبان إلى مقاعد السلطة في أفغانستان، وبدت منذ ذلك اليوم وكأنها محل اختبار يتجدد في كل صباح.
ولأنَّ حكومة الحركة لم تحصل على اعتراف دولي بها حتى اللحظة، ولا حتى من الولايات المتحدة التي أنهت قواتها مغادرة الأراضي الأفغانية في ذات التاريخ، فلقد كان المتصور أن الحكومة الجديدة سوف تحاذر وهي تخوض اختبارها المتجدد، لأن عين المجتمع الدولي كانت مفتوحة عليها منذ عادت، ولأن هذا المجتمع كان يراقب أداءَها من بعيد، ليرى ماذا بالضبط سوف تفعل في حياة الأفغان؟!
ولأن الحركة عادت بعد غياب لها عن السلطة دام عشرين سنة، ولأن هذه المرة ليست الأولى لها في الحكم، فإن عين العالم المفتوحة عليها كانت تترقب، وكان سبب الترقب أن هذا العالم الذي لا تستطيع الحكومة الطالبانية أن تنفصل عنه، كان يرغب في أن يرى ما إذا كانت التجربة الأولى لها في السلطة كانت مفيدة، ومضيفة، ومسعفة، أم أنها كانت تجربة ضائعة، ولم تكن ذات رصيد لدى قادة الحركة؟!
وكان المتصور أن طالبان سوف تتحسس خطواتها وهي تبدأ تجربتها الجديدة، وأنها سوف تكون أقرب إلى الحرص وهي تمارس السياسة منها إلى أي شيء آخر، لأن ألف عين تتطلع وتنتظر.
ولكن بدا يوماً بعد يوم، أنها أبعد ما تكون عن الحرص، وأنها ما كادت تعود إلى الحكم في العاصمة كابول، حتى نسيت تماماً أن لها تجربة سابقة في العاصمة نفسها، وأنها جلست من قبل على المقاعد ذاتها، وأن عليها أن تبني على ما كان في السابق، وأن تجربة السنوات الخمس في نهاية التسعينات، لا يجوز أن تكون منفصلة عما تمارسه بعد عودتها، وأن الاستفادة من التجربة عموماً هي الشيء الأهم، الذي يميز بين الإنسان على الأرض وبين سائر الكائنات.
نسي قادة طالبان هذا كله، وتجاهلوه كله، وقفزوا فوقه كله، وذهبوا إلى ممارسة مهام الحكم، وكأن تجربة السنوات الخمس لا قيمة لها ولا تراكم السنين له أثر.
وكان الاختبار الأكبر لها مع المرأة بالذات، وكان المنفتحون على الدنيا في العالم الإسلامي، وفي العالم العربي من ورائه، يتمنون لو أنها لم تخذلهم أمام أنفسهم، ثم أمام العالم، وأن تكون أقرب إلى روح الإسلام منها إلى نصوصه، وأن تتحرى مقاصد الدين العليا، قبل أن تتقيد بظاهر النص، سواء كان هذا النص قرآناً، أو كان حديثاً صحيحاً للرسول عليه الصلاة والسلام.
كان هذا هو رهان المنفتحين على الدنيا بيننا، ولم يكن ذلك لأنهم يأخذون موقفاً من النص في القرآن أو في الحديث الصحيح، ولكن لأن أي مسلم منفتح على العالم من حوله يدرك جيداً أن هذا الانفتاح لا يمكن أن يتصادم مع تمسكه بأصول دينه، ولا يمكن أن يتناقض مع ما تقول به نصوص هذا الدين في روحها العميقة، ولا يمكن في التقييم الأخير إلا أن يكون انتصاراً للدين، ونصوصه، ومقاصده العليا، التي تتحدث في كل تجلياتها بلسان من الانفتاح على كل ما يحقق صالح الإنسان.
على هذا الأساس لا يمكنك إلا أن تقرأ ما بين السطور في حديث محمد حنيف، وزير الاقتصاد في الحكومة، عن أن وزارته قررت حظر عمل النساء الأفغانيات في المنظمات غير الحكومية، سواء المحلية منها أو الأجنبية.
كان الوزير حنيف يتكلم عن الحظر، وهو لا ينتبه إلى أن ما قررته وزارته وما أعلنه هو، كان الاختبار الثالث الذي تدخله حكومة الحركة، ثم لا تبالي ولا تلتفت إلى أن خوضها هذا الاختبار بنجاح، إنما هو خيار لا بديل عنه، وضرورة لها، ولبلدها معها، إذا كان يعنيها الذهاب بالبلد إلى المستقبل.
ومن قبل كان هناك اختبار آخر، هو الاختبار الذي صدر فيه توجيه من ندا محمد نديم، وزير التعليم العالي، إلى الجامعات الحكومية، والخاص بمنع البنات من دخول الجامعات.
وقبل الاختبارين كان هناك اختبار أول، وكان ذلك عندما حظرت حكومة الحركة ذهاب البنات إلى المدارس، وأغلقتها أمام كل بنت أفغانية تصورت أن طالبان العائدة سوف تنتصر لتعليمها، وسوف لا ترى شيئاً يعيب البنت إذا قررت الذهاب إلى المدرسة.
وفي الاختبارات الثلاثة كانت المرأة مشكلة في حالة المنظمات غير الحكومية، وكانت البنات مشكلة في حالة المدارس والجامعات، وكانت الحركة القادمة من الكهوف والجبال تقول بعد قضاء عشرين سنة هناك، إن وجودها في منفاها الإجباري لم يغير من عقليتها أي شيء، وأن تجربة الحكم السابقة على المنفى الجبلي لم تغير فيها أي شيء هي الأخرى، وأن قادتها عادوا إلى الحكم كما خرجوا، ورجعوا من الجبال والكهوف كما ذهبوا، وكأنهم يتوارثون العقلية قبل أن يتوارثوا ما سواها.
وعندما جربت المنظمات غير الحكومية التي يشملها توجيه الوزير حنيف أن تفهم سبب هذا التوجيه المفاجئ، كان الرد أن نساءً ممن يعملن في هذه المنظمات قد خالفن تفسير طالبان للزي الذي على المرأة الأفغانية أن ترتديه إذا خرجت من البيت.
هنا سوف نجد أنفسنا أمام أصل القضية، وهذا الأصل هو أن المخالفة من جانب بعض النساء إنما كانت لتفسير تراه طالبان، لا لتفسير الإسلام ذاته للزي الذي على المرأة أن ترتديه.
ولو كان الرجل قد قال إن نساءً خالفن الزي الإسلامي، لكان من الوارد أن نرى ما هو بالضبط الزي الذي يقصده، ثم نناقشه فيه، وفيما إذا كان زياً إسلامياً بالفعل، أم أنه من وحي، ومن خلق، ومن تأليف حركة طالبان وهي تحكم بلاد الأفغان.
ولكنه يتحدث عن تفسير حركته للزي الإسلامي، ويتكلم عن مخالفة ارتكبتها نساء أفغانيات لهذا الزي في أثناء العمل في المنظمات غير الحكومية، ويجعل من تفسير الحركة تفسيراً ملزماً لكل أفغانية، لأنه في نظره تفسير الإسلام قبل أن يكون تفسير طالبان.
وحقيقة الأمر أن جوهر الإسلام شيء، وما تتحدث عنه الحركة على أنه يمثل الإسلام شيء آخر؛ لأن هذا الموقف المتشدد من المرأة لا يمكن أن يكون جوهر الدين الذي نعرفه.
ولا يتحدث العالم وهو يتابع هذه الممارسات المتتالية في أفغانستان، إلا عن «حكومة طالبان الإسلامية»، وإلا عن أن هذه حكومة إسلامية، فيظل المعنى الذي يتبقى في عقل المتابع من خارج أفغانستان، وبالذات في عواصم الغرب على اختلافها، أن هذا هو دين الإسلام، وأن هذا هو ما يراه في حياة المرأة وفي زيها، وأن هذا هو وضع النساء في دين النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
وهكذا تتحول حركة طالبان من حركة يعتنق قادتها هذا الدين، ويلبسون الجلابيب الفضفاضة المزركشة تعبيراً عن الانتماء إليه، إلى عبء على الدين، وإلى شيء يثقل كاهله، وإلى سلوك يرهقه ويظهره في القرن الحادي والعشرين، وكأنه لا علاقة له بالعصر الذي نعيشه، ولا صلة له بالوقت الذي يعيشه الناس في العقد الثالث من هذا القرن.
تتصور الحركة بما مارسته وتمارسه في الاختبارات الثلاثة، أنها تعاقب البنت الأفغانية فتمنعها من المدرسة ومن الجامعة، وتتخيل أنها تعاقب المرأة الأفغانية فتمنعها من العمل في المنظمات غير الحكومية، ولكنها في الحقيقة لا تعاقب هذه ولا تلك، وإنما تعاقب بلدها في مجمله، وتعاقب صورتها هي فتهيل التراب عليها، وتعاقب كل مسلم في العالم يظل يتحرك في مكانه عن إحساس بأنه متهم أمام الآخرين، وأن التهمة هي معاداة دينه للعصر، ومعاداته هو نفسه للناس في كل مكان.
ولا تزال الضغوط الدولية تتوالى على طالبان، ولا تزال ضغوط المنظمات الأجنبية العاملة داخل البلاد تتصاعد عليها، ولا يزال في إمكانها أن تنصت إلى صوت النصيحة التي كان الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب قد أسداها إلى أبي موسى الأشعري فقال: إن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وفي الأمثال الشعبية المصرية ما يفيد بأن «التالتة تابتة»، ومعناه الفرصة التي لا فرصة بعدها، ولا بد أن في يد طالبان أن تجعل من الاختبار فرصة للمراجعة، وفرصة لإثبات أن بينها وبين الخليفة الراشد الثاني صلة في الأخذ عن نصيحته إلى الأشعري، إذا فاتها أن تكون الصلة في غير هذه النصيحة.