في الوقت الذي تشهد فيه تونس أسوأ أزماتها الاقتصادية التي أثرت سلباً على الرواج التجاري، وتراجع دخول أصحاب المهن الحرة؛ اقتحمت النساء مجال الحرف التي كانت مقتصرة على الرجال، أو التي تكتسي ممارستها بمخاطر كثيرة، مثل الحدادة والفلاحة وغيرها من المهن التي يصفها التونسيون بـ"الذكورية".
"اندبندنت عربية" استطلعت عدداً من التجارب الناجحة التي خاضتها نسوة تونس كي تعيد اكتشاف المرأة من جديد في حرف ومهن تمثل إرثاً تاريخياً من هيمنة وسيطرة الرجال عليها.
نجاح الحدادة
في ولاية سليانة (شمال غربي تونس)، نجحت الشابة إكرام دباش (21 سنة) في اقتحام مهنة كانت إلى أمد طويل حكراً على الرجال وهي "الحدادة" بما تمليه المهنة على ممارسها من ضرورات مثل البنية الجسدية والجسمانية، وعلى رغم أنها نجحت في ترسيخ نفسها كأول امرأة في تونس تمتهن الحدادة؛ إلا أنها لا تخفي أنها تعرضت إلى العديد من الصعوبات في بداياتها، وفي مقدمتها نظرة الناس إليها وهي تعمل في ميدان محسوب على الرجال.
وتقول دباش "بداياتي في المهنة كانت من خلال مساعدة والدي، الذي ساعدني على أن أحبها، حتى أقدم نفسي كحرفية على أفضل وجه، قبل أن يكون لي منتجات خاصة"، مشيرة إلى أنه "في البداية لم يتم قبول عملي ولم يشتر كثيرون ما أنجزه، فكنت بالنسبة لهم عار ولا يحبذون عملي؛ لكن مع مرور الوقت والعمل الجيد الذي أقدمه للحرفيين الذين يصارحون الناس بأن منتجاتي جيدة، تم تقبل ذلك، وبدأت الناس تحب عملي". وتابعت دباش القول "أي إنسان يرغب في النجاح ما عليه سوى أن يحب عمله، ثم يبدأ بقوة مدركاً أن النجاح ممكن، عندما نكون متفائلين ونعرف كيف نختار الطريق الذي نريده، وأنه بالإمكان أن نتخطى الصعوبات، بما في ذلك عدم قبول البعض له".
ولفتت إلى أن عملها ليس سهلاً، بخاصة أنه في محيط يتعلق بآلات ميكانيكية من الصعب إدارتها، مشيرة إلى أن "العمل بشكل شبه كامل مع الرجال، أمر من الصعب أن تتقبله العائلة ككل؛ لكن كافحت وحاولت إبراز صورة إيجابية عني وعن المرأة عموماً، وأنه لا فرق بين المرأة والرجل".
الزراعة والفلاحة
وغير بعيد من سليانة وتحديداً في ولاية جندوبة (شمال غربي تونس) تقدم فتاة تدعى، زهرة النفاف، أيضاً نموذجاً في تطوير دور المرأة، حيث بدأت بالعمل كمزارعة قبل أن تدخل سباق عضوية اتحاد المزارعين، الذي يهيمن عليه الرجال خصوصاً مكتبه التنفيذي.
وقالت النفاف "بدأت عملي في الفلاحة لتقديم المساعدة لزوجي في زراعة البطاطا والقوارص في غار الدماء، ثم كان لدي طموح هو الدخول إلى اتحاد المزارعين الذي كان يهيمن عليه بشكل كبير الرجال، حيث تم انتخابي في السنوات الأخيرة لتقلد العديد من المناصب الهامة بما في ذلك عضوة في المجلس المركزي للاتحاد".
وتابعت "منذ ذلك الحين تم تعزيز حضور المرأة، وفي المؤتمر الأخير تم انتخاب امرأتين في المكتب التنفيذي"، مشيرة إلى أنها تتمنى الارتقاء بواقع الفلاحات؛ لا سيما وأن المرأة العاملة في هذا المجال تتعرض لصعوبات جمة، منوهة ببعض المشكلات التي تواجهها مثل نقل العاملات في شاحنات وظروف غير مؤمنة أو مناسبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رهان الكرة
لم تختر نساء تونس المهن التقليدية فحسب، حيث تعد درصاف القنواطي مثالاً آخر، لكن في كرة القدم، حيث أصبحت أول حكمة تدير مباريات للرجال في العالم العربي وأفريقيا، عندما قادت مباراة جمعت الترجي الرياضي والنادي البنزرتي 2019، ولا تزال تدير لقاءات في الدوري التونسي.
وتقول القنواطي "بدأت علاقتي بالكرة كحارسة مرمى في 2005، ثم انقطعت عن ذلك لأسباب دراسية، وانتقلت إلى التحكيم حيث بدأت في الأقسام السفلى، ولم يكن هناك الكثير من البنات في التحكيم، فكان هذا تحدياً بالنسبة لي".
وأردفت القول "بدأت في إدارة مباريات الشبان، ثم بالتدرج إلى أن وصلت إلى إدارة مباراة في الدوري التونسي بين الترجي والبنزرتي، وكنت أول امرأة في العالم العربي وأفريقيا تدير مباراة رسمية في الكرة للرجال".
وشددت القنواطي على أن "منذ وقتها بدأ التحدي أكثر لأن أي حكم يبدأ بمباراة من دون رهان، لكن الإصرار زاد، ومنذ ذلك الوقت تقريباً، أدير لقاءات في الرابطة الثانية وفي الرابطة الأولى أيضاً، وشاركت في كأس العالم تحت 17 عاماً، وبطولتي أفريقيا، وتمكنت من أخذ إجازة (رخصة) للعمل على تقنية (VAR).
وتابعت درصاف قولها "حلمي تحقق؛ لكن أحاول التقدم، ولا أريد أن يتم استغلال حضوري في البطولات كي يقال تزيين صورة المرأة؛ بل أريد إثبات أننا جديرات بالتواجد هنا وإدارة مباريات رجالية".
على رغم الأجواء المشحونة التي تعرفها كرة القدم التونسية، وهو ما يزيد عادة من الضغط على الحكام، إلا أن القنواطي تقول "ضغط المستطيل الأخضر عال باستمرار، لكنني لا أجد مشكلات؛ بل العكس أجد احتراماً من اللاعبين في البطولات المحلية، كما أنه عند الخطأ يتم احترام المرأة ولا يتم التعامل معها بنفس الشكل الذي يتعامل به اللاعبون عند الاحتجاج مع الحكام الرجال".
وأشارت إلى أن الضغط والمشاحنات حول المباريات لا يشغل بالها، موضحة "لا أركز مع الضغط الذي يحاول وضعه الجمهور أو اللاعبون؛ لأن السقوط في فخ هذا الضغط يؤدي إلى أخطاء في إدارة المباراة، لكن الأمر الإيجابي هو أن هناك تقدماً في اعتماد النساء كحكمات للكرة في تونس".
اكتساح قديم
واعتبرت رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة في تونس، راضية الجربي، أن "المرأة التونسية اكتسحت مجالات لا تزال في العديد من الدول تعتبر مجالات لعمل الرجال، هذا مكسب لأنه عندما ننظر نجد أول سائقة طائرة كانت تونسية منذ العقود الأولى التي تلت الاستقلال 1956، وأيضاً أول سائقة تاكسي".
وتابعت الجربي "هناك العديد من المهن التي كانت حكراً على الرجال دخلتها المرأة لكن هناك مجالات تحتاج بنية جسدية مثل الحدادة والبناء وغيرهما وهي مجالات دخلتها النساء في العشر سنوات الأخيرة".
وأكدت الجربي أن "هذا الاكتساح ليس بالجديد، فمنذ القدم تعمل المرأة في البحر، وتصنع شباك الصيد، وهي مهن تم اقتحامها قبل الاستقلال، فجعل للمرأة التونسية ميزة خاصة، وهي تقبل المجتمع لها.
واستدركت رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية القول "المرأة إذا دخلت مجالات تحتاج بنية جسدية، ولديها أعباء أسرة وأبناء، وربما تدفعها الضغوط الاقتصادية والاجتماعية إلى الخروج والعمل في مجالات شاقة".